و القومية و التقدمية. و قد كانت نظرته ثاقبة و توقعاته صحيحة. إذ أصبحت الجبهة الشعبية قوة سياسية هامة في الساحة السياسية الوطنية و لعبت دورا كبيرا بين 2012 و 2018 سواء على المستوى الشعبي أو البرلماني.
ولكن هذا البناء الجبار الذي أسهم فيه الشهيد بصورة حاسمة فتكت به الصراعات و النزاعات وصولا إلى انهياره بصورة دراماتيكية لتعود القوى السياسية اليسارية و التقدمية إلى المربع الأول من التشتت و التشرذم فمنيت بهزيمة انتخابية نكراء سنة 2019 .
هكذا أفرز غياب اليسار فراغا رهيبا في الساحة السياسية استغلته التيارات الشعبوية و تيارات أقصى اليمين لتعبئة صفوفها في ظرف تحتد فيه الأزمة السياسية والإقتصادية والإجتماعية.
وبرأينا فإن من أبرز سمات أزمة اليسار التونسي هي الغموض و الضبابية في الاطروحات الفكرية و السياسية حول عديد القضايا الإستراتيجية الراهنة.
دعم مكاسب ثورة 14 جانفي أو الدعوة لثورة جديدة؟؟
هنالك العديد من فصائل و رموز اليسار يعتبرون أن ثورة 14 جانفي فشلت لأنها أتت بأطراف رجعية و ليبرالية للحكم و يطرحون ضرورة ثورة جديدة يأملون عبرها أن تؤدي إلى وصول الثوريين للحكم دون أن يوضحوا كيف سيتم ذلك. من وجهة النظر اليسارية فإن ثورة 17 ديسمبر - 14 جانفي هي ثورة ديمقراطية ولم يدعي أحد أنها ثورة اشتراكية. فقد حققت فعلا الديمقراطية سواء من حيث إرساء الحريات الفردية و العامة أو فصل السلطات أو الإنتخابات الحرة والشفافة و التداول على السلطة هذه الديمقراطية التي استفادت منها القوى اليسارية. و قد توج دستور 27 جانفي 2014 الثورة الديمقراطية التونسية و أرسى أركان الجمهورية الديمقراطية الثانية. لقد كان اليسار من أكثر الأطراف التي أنضجت المسار الثوري على مدى عديد السنوات و شاركت في الثورة بصورة مباشرة و دعمت مسيرتها. لذلك يبدو من التناقض التنكر لمكاسب ثورة 14 جانفي و الدعوة لثورة جديدة. فلا أحدا بإمكانه أن يتنبأ بالمصير الذي قد تنتجه ثورة جديدة هذا إذا تحققت. فقد تكون ثورة مضادة تعصف بالدولة و المجتمع و بالديمقراطية كما حدث في بلدان أخرى و تؤدي إلى فوضى يكون الشعب و القوى التقدمية أكبر الخاسرين فيها. لئلك يبدو هذا الطرح مغامرا و خطيرا و يهدد مكاسب ثورة 14 جانفي.
التغيير بالإنتخابات أو بإسقاط النظام؟؟؟
يطرح بعض قيادات اليسار إسقاط النظام الحالي والإطاحة به عبر الثورة الشعبية. وهو طرح خاطئ لا بل خطير و يهدد المكتسبات الديمقراطية التي حققتها بلادنا. من جهة فإن من مكتسبات ثورتنا الديمقراطية هي إقامة انتخابات ديمقراطية و شفافة مكنت اليسار من الوصول إلى مراتب متقدمة. وإذا لم ينجح اليسار في بقية المحطات فذلك يعود إلى أخطائه وقصوره وتشتته.
ثم إن الرفاق الذي يطرحون إسقاط النظام بالثورة الشعبية لا يقولون لنا كيف سيتم الوصول إلى السلطة بعد سقوط النظام؟؟؟. فإذا مازالوا يحلمون بطريقة ماو تسي تونغ أو فيدال كاسترو الذين اسقطوا النظام و استولوا على السلطة فإن ذلك يم يعد ممكنا لا فقط بحكم التوازنات الداخلية بل أيضا بحكم الأوضاع الإقليمية والعالمية. وستكون الإنتخابات هي الآلية الوحيدة التي ستنظم بها عملية التداول على السلطة في صورة انتفاضة أو ثورة أخرى.
لقد أصبحت الإنتخابات هي الإلية الوحيدة والواحدة للوصول إلى الحكم بطريقة مشروعة في جميع أنحاء العالم. و من مظاهر قصور بعض التيارات اليسارية أنها لم تستوعب بعد هذه المسالة الجوهرية في الديمقراطية الحديثة و لذلك فهي متهمة بعدم الصدق في قناعاتها الديمقراطية. وعلى اليسار تثبيت هذه المسالة نهائيا في فكره السياسي.
من الديمقراطية إلى الإشتراكية: بالإصلاح أم بالثورة؟؟؟
بناء على اعتبارنا أن ثورة 14 جانفي كانت ثورة ديمقراطية فمن المشروع للقوى اليسارية أن تدعو إلى أن تتواصل الثورة حتى تحقيق الإشتراكية. و في الأدبيات الماركسية العالمية أو التونسية طرحت ديناميكية هاتين المرحلتين بطرق مختلفة. فالتروتسكيون مثلا كانوا يطرحون الثورة الدائمة أي تحويل الثورة الديمقراطية على القيصرية في روسيا ( ثورة 1905 ثم ثورة أكتوبر 2017) إلى ثورة اشتراكية. أما التيار الماوي الصيني فكان يطرح الثورة على مرحلتين : مرحلة وطنية ديمقراطية يتحقق فيها التحرر الوطني و إرساء الديمقراطية ثم مرحلة ثانية تتحقق فيها الإشتراكية. و قد عرف اليسار التونسي نقاشات و صراعات طويلة حول علاقة الثورة الديمقراطية بالثورة الإشتراكية . واليوم و بعد أن تحققت الثورة الديمقراطية فكيف سيتم النضال من أجل المرور إلى الإشتراكية؟؟؟ لقد بيننا فيما سبق أخطار الدعوة إلى ثورة أخرى قد تهز أركان الدولة و ترسي ديكتاتورية تخدم أعداء الشعب وتضرب القوى الثورية. و برأينا فإن النضال من أجل إصلاحات جذرية هو السبيل من أجل تحقيق العدالة الإجتماعية و المساواة والحفاظ على البيئة و الدفاع عن حقوق المرأة وتحقيق أوسع ما أمكن من الحريات الفردية. والنضال من أجل هذه الإصلاحات يكون بالنضالات الشعبية و يكون أيضا داخل قبة البرلمان وفي المجالس البلدية والمجالس الجهوية وعبر تعبئة الرأي العام من أجل هذه القضايا.
من أجل يسار جمهوري اشتراكي ديمقراطي
لقد كان اليسار من ابرز قوى الثورة التي ناضلت من أجل الجمهورية الثانية و من أجل إرساء مؤسساتها. و قد نكون معارضين للرئيس المنتخب أو للبرلمان المنتخب أو للحكومة. و لكن الوعي الجمهوري الذي تأسس عليه الفكر اليساري والتقدمي يدعو إلى احترام هذه المؤسسات الديمقراطية باعتبارها مؤسسات الجمهورية وملك للشعب و الدود عنها و هذا لا يتناقض مع معارضة من يتحملون المسؤولية فيها. فغدا قد تكون شخصيات يسارية و تقدمية على رأس هذه المؤسسات. و هذا يتناقض مع التيارات الرجعية والفاشية التي تسعى لضرب مؤسسات الجمهورية تمهيدا لإرساء ديكتاتورية جديدة.
لقد برزت منذ نهاية القرن العشرين تيارات اشتراكية ديمقراطية تلتزم بمبادئ الديمقراطية والجمهورية وتنهل من الأهداف النبيلة للإشتراكية. فخلال عقود تم تصوير اليسار بأنه من دعاة دكتاتورية البروليتاريا و أنه معاد للديمقراطية ويدعو للإستيلاء على السلطة بالقوة. من جهة أخرى فقد تم تصوير الاشتراكية ولمدة عقود على أنها تأميم قسري و عنيف لوسائل الإنتاج الصغيرة و الكبيرة مما وصم اليسار بالعنف و الدموية كنتيجة لتجارب دموية فاشلة عبر العالم. و قد تمكنت أحزاب اشتراكيةو ديمقراطية بعد القيام بمراجعات جوهرية أن تتبنى منظومة فكرية و سياسية معاصرة ومحينة up to date حسب ظروف و معطيات العصر الحديث و التي تختلف جذريا عن ظروف النصف الأول من القرن العشرين. هكذا تمكنت هذه الأحزاب من الوصول إلى الحكم عبر صندوق الإقتراع في عديد الدول الأوروبية و البلدان الإسكندينافية و تمكنت خلال فترة حكمها من تحقيق مكاسب كبيرة للطبقات الشعبية.
إن الاحتفال بذكر استشهاد شكري بلعيد من الضروري أن يكون فرصة لليسار لمراجعة توجهاته والإعداد لانطلاقة جديدة تحتاجها البلاد أكثر من أي وقت مضى.
ومن يكرم الشهيد يتبع خطاه.
في ذكرى استشهاد شكري بلعيد: اليسار التونسي: إلى أين ؟؟؟
- بقلم المغرب
- 11:49 05/02/2021
- 1251 عدد المشاهدات
بقلم: عبد المجيد المسلمي:
(عضو سابق بالجبهة الشعبية)
لقد كرس الشهيد الرمز شكري بلعيد أيامه الأخيرة لبناء و تصليب الجبهة الشعبية التي أسسها مع رفاقه في 7 أكتوبر 2012 باعتبارها إطارا لتجميع القوى اليسارية