السياسة الاقتصادية: في عهد الأزمات بقلم: المنجي بوغزالة استاذ - جامعة تونس المنار

لا أحد ينكر أن البلاد التونسية تمر بأزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية حادة وأن موارد الدولة المالية متدنية ولا تفي للاستجابة لكل التطلعات والطلبات

الاجتماعية العديدة والمتكاثرة وأنه لا مفر من الاقتصار على ما هو أهم. ولكن هذا الأهم بالنسبة إلى من والحال، أن أولويات أصحاب القرار لا تتفق دوما مع ما يقتضيه الانماء الاقتصادي والخروج من الأزمات؟ كل المؤشرات تدل على أن سياسات الحكومات المتعاقبة أدت خلال العشرية المنقضية إلى تعميق الأزمات وإلى إهدار الفرص. وظل الناس ينتظرون من الدولة أن تعمل من أجل تنمية الاقتصاد والحد من بطالة الشباب والفقر والتفاوتات الجهوية والاجتماعية وأن تساعد على حماية البلاد من تداعيات وباء الكوفيد. كما ينتظر من الدولة أن تعيد الاقتصاد إلى استقراره وأن تعتمد على سياسات تقلل من مديونية الدولة ومن التضخم ومن العجز الخارجي... أي أنه على الدولة أن توفق بين الأهداف التنموية والاكراهات المالية وأن تسعي للتدرج نحو الاستقرار والتنمية. وبالطبع لا يمكن لأي حكومة مهما كانت أن تحقق كل هذه الغايات في نفس الوقت وبسرعة ولا شك أن الخيارات المتاحة ضئيلة وأنه لا مناص من الاعتماد على المزيد من التداين طالما استمرت الأزمة. فماذا نجد في قانون المالية لسنة 2021 وهو المعبر عن أهم اختيارات النظام الحالي؟ هل فيه ما يسمح بالقول أن الدولة استطاعت أخيرا أن توظف مواردها في ما ينفع الناس و تسعى حقا لإنقاذ البلاد من الأزمات التي تتردى فيها؟

كيف يمكن أن يكون الأمر كذلك في غياب خطة بعيدة المدى أو رؤيا تنموية اقتصادية واجتماعية متكاملة توفق بين كافة الأهداف والأوليات والموارد تصاغ في إطارها الميزانية والسياسة الاقتصادية؟ لا غرابة أن هذه الميزانية لا تقدم شيئا يذكر في مجال الأهداف التنموية مثل إنعاش الاقتصاد وتشغيل الشباب والحد من الفوارق بين الجهات وإصلاح وتأهيل المؤسسات العمومية المكبلة والرفع من أدائها. أما عن حماية الاقتصاد من تداعيات الكوفيد فقد وقع الغاء الاعتمادات التي رصدت لها في البداية كما يتضح ذلك في المشروع الأولي للميزانية الذي رفض من طرف نواب الشعب، بحيث لم يبق في هذه الميزانية إلا ما لا يمكن حذفه. كل ذلك يدل على عقم وتمزق الدولة أو بالأحرى تمزق المشهد السياسي التونسي. وذلك ما هو إلا الحلقة الأخيرة في سلسلة الإخفاق وعجز أصحاب القرار على أخذ القرارات الصائبة ودليل على اتفاقهم على أن لا يتفقوا.

معضلة تونس لا تكمن في وباء الكوفيد القاتل والمريع مهما اشتد وقعه بل في تمزق وصبيانية المشهد السياسي التونسي وقادته وما انجر عن ذلك من انخرام مؤسسات الدولة وعدم استقرارها، رغم أننا كنا نأمل في أن الثورة سوف تفتح المجال شاسعا لإصلاحها وتطويرها حسب متطلبات التنمية والرقي الاجتماعي.
حصل ذلك رغم أن حل المعضلة موجود ووحيد وبديهي ويتلخص في توحيد كل الجهود من لدعم التقدم الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي بناء على مشروع واضح المعالم وعلى قيم العمل والعلم والعدالة والتسامح والصدق وعلى دولة القانون وضمان كل الحريات للجميع. فهل أن شعبا ما يتقدم بدون علم وحرية؟ وما أحوج تونس أيضا للنظام والسلوك المدني والحضاري وهو ما يجب دعمه بفضل هذه الوحذة.

كان -على الأقل- على السلط الحالية بمختلف أجنحتها، لاسيما الحكومة والبنك المركزي، أن تنسق مواقفها وبرامجها فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية الكلية العاجلة التي تشمل السياسة المالية (الميزانية والجباية) والسياسة النقدية وربطها بسياسة التداين وذلك لمحاولة الخروج من الأزمة بأقل تكلفة ولكن هذا التنسيق ظل شكليا ومنقوصا، ويتجلى ذلك في كيفية التداين المعلنة في ميزانية 2021. فالتنسيق والتوفيق بين السياسة المالية والسياسة النقدية امر ضروري في هذا الظرف الصعب ولا يتناقض ذلك مع مبدإ استقلال البنك المركزي على أن هذا المبدأ لا يعني أن للبنك المركزي كل الحرية في اختيار اهداف السياسة النقدية بما في ذلك مستوى التضخم المستهدف. بل يجب أن يقع الاتفاق حول كافة الأهداف بين الأطراف المعنية في إطار منظم. في ظروف لو كنا في ظروف عادية لكانت نسبة التضخم المقبولة اثنان أو ثلاثة بالمئة لكن في زمن الأزمات يصح ترك مجال أوسع لتمويل عجز ميزانية الدولة والاقتصاد عامة وذلك بالترفيع في هذه النسبة إلى حوالي خمسة أو ستة بالمئة (وهو أمر قابل للحوار). وعلى كل حال ليس التضخم أشد الأخطار التي تهدد المجتمع

التونسي، العجز الخارجي والدين الخارجي أخطر بكثير، ولذلك علاقة مع سياسة الدولة المالية. لا أظن أن للدولة مجالا للحد من مستوى العجز المعلن عنه في ميزانية2021 وهو حوالي سبعة آلاف مليون دينارا، المشكل يتعلق بكيفية تمويله. فقد أقر قانون المالية 2021 أن الدولة ستقترض حوالي ثمانية عشر ونصف (18,5) ألف مليون دينارا وستسدد حوالي احدى عشرة ونصف (11,5) ألف مليون دينارا، أي أن مستوى الدين سيرتفع بمقدار يساوي مستوي العجز، الغريب في الأمر أن القسط الأكبر من الاقتراض المطلوب خارجي (13 ألف مليون من18,5 ) وإذا أخذنا بعين الاعتبار تسديد الديون فذلك يعنى ارتفاعا كبيرا للدين الخارجي واستقرار مستوي الدين الداخلي. وهو ما يدل على غياب التنسيق الفعلي بين السياسة المالية والسياسة النقدية. يبدو أن هناك من يبرر هذا التوجه بوقع الدين الداخلي على التضخم وبضيق السوق المالية التونسية، وكلا الفكرتين خاطئتين.

أولا إن وقع الين الخارجي على التضخم لا يقل عن وقع الدين الداخلي بل قد يفوقه لأن الأموال المتأتية من الدين الخارجي تؤدي عند صرفها إلى ضخ ما يعادلها من السيولة الإضافية من العملة الوطنية ولا يكون الأمر كذلك بالنسبة للدين الداخلي إلا إذا أعاد البنك المركزي تمويل هذا الدين. كما أن حجم الطلب على الدين الداخلي يتسع بقدر تدخل البنك المركزي ومدي تمويله للدين. وإن مثل هذه العمليات أداة عادية بالنسبة للبنوك المركزية عامة طالما أحسنت استعمالها دون إفراط. ومن المعلوم أن بنوك أكبر الدول استعملته بكثافة عالية خلال الأزمات وفترات الركود الاقتصادي.

لذلك من الحكمة أن نقلل من التداين الخارجي وأن نطلب من البنك المركزي أن يعيد تمويل جزءا هام من الدين الداخلي والاحتفاظ به طويلا حتى ينفرج الوضع الاقتصادي وتتعافى المالية العامة. وبالطبع يجب مواصلة الحذر والاستعداد لاتخاذ الإجراءات التعديلية كلما اقتضت الظروف ذلك بما في ذلك مستوى التضخم واحتياطي العملة الأجنبية على أن خطر التضخم أقل حدة ألان نظرا لضعف الطلب الإجمالي نتيجة النقص المستمر في مستوى التصدير والمداخيل والاستثمار. المشكل الحقيقي في هذا الظرف الصعب يعود إلى غياب بديل يغنينا عن الاعتماد على عامة وعلى الاقتراض الداخلي خاصة وعلى الالتجاء إلى البنك المركزي. مع أنه لا يمكن الاستغناء تماما عن التداين الأجنبي ولكن لا لتمويل الانفاق الحكومي بل لسد عجز ميزان الدفوعات الخارجية.

وليس لتونس بديل إلا التعويل على قدراتها التنمية المستقبلية لتسديد ديونها وتحقيق طموحاتها ولكن ذلك رهين الخروج من الأزمة السياسية والتام وحدة قادرة على إعادة الأمل وإنجاز المشاريع التنموية الكبرى وما يترتب عنها من إصلاحات نافعة وواجبة.

بقلم: المنجي بوغزالة 

استاذ  - جامعة تونس المنار 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115