ماذا يجب ان يتغير في التشريع السياسي التونسي؟

بقلم: الاستاذ سالم السحيمي
المحامي لدى التعقيب
• مقدمة:
كثر الحديث منذ مدة عن ازمة معطلة لديناميكية النظام السياسي التونسي وظهرت هذه الازمة على اكثر من واجهة وخاصة

في مستوى البرلمان من حيث الفاعلية وانجاز المطلوب ( تشريعا / رقابة /) وذلك من حيث العلاقات بين النواب والكتل.
وقد اجتهد الكثير في اعتبار وان ازمة النظام السياسي في جزء كبير منها متاتية من طريقة الاقتراع ( متعلق بالقانون الانتخابي ) او من توزيع السلطات واختيار النظام البرلماني.
لا شك وان مثل هذه التقييمات والتقديرات فيها جانب كبير من الصحة, ولكن تبقى غير كافية دون الالتفات لبعض المسائل الدقيقة التي غفل عليها المشرع سواء في قانون الانتخابات او حتى في الدستور وهي التفاصيل العامة التي تفطن لبعضها التشاريع المقارنة ( ومنها خاصة دستور المغرب والجزائر ...) والتي جذبت الحياة السياسية عندهم ومنها الحياة النيابية بعض المعضلات التي نعيشها في بلادنا فلتفادي مزيد التعطيلات والمشاكل في نظامنا السياسي وبصرف النظر عن طريقة الاقتراع او نظام الحكم (رئاسي برلماني ...) لا بد من ادخال التعديلات والتحسينات الضرورية التالية على التشريع الوطني اسوة بالتجارب المقارنة .
I - توسيع مفهوم «الرشوة الانتخابية»:
«لا يمكن الحديث على ديمقراطية سليمة في غياب عملية انتخابية سليمة».
واذا كانت الانتخابات « مزورة « فاننا امام «ديمقراطية مزورة» وتزوير الانتخابات تفهم بتدليس اختيار الناخب اوالتحكم وتوجيه ارادته في اتجاه غير الذي يجب ان يذهب اليه بارادة الحرة.
واحد هذه الوسائل التي تفسد إرادة الناخب واختباره الحر هي «الرشوة الانتخابية».
ولهذا السبب فان كل تشاريع الانتخابات جرمت الرشوة الانتخابية ومنها الفصل 161 من قانون الانتخابات التونسي ( قانون أساسي عدد 15 لسنة 2014 بتاريخ 26 /05 /2014 ) والذي يقابله في التشريع الجزائري الفصل 211 من قانون رقم 16 /10 لسنة 2016 والفصل 105 ومايليه من القانون الفرنسي لسنة 2002 ).
لكن تجريم الرشوة الانتخابية لم يمنع من» التأثير في إرادة الناخب « ( حسب عبارة القانون التشريع التونسي والجزائري ) لان هذا المفهوم كان ضيقا بقدر ما يسمح للعديد من الفاعلين بالتدخل في العملية الانتخابية والتحكم فيها وتوجيهها عبر أنواع من الرشوة الانتخابية غير المجرمة بالفصل 161 خاصة وانه نص جزائي يقع قانونيا تأويله تأويلا ضيقا.
فالممارسة الفعلية أثبتت أن «الرشوة الانتخابية» اكبر واخطر من التي وقع تجريمها بالقانون الانتخابي.
ولقد تفطنت بعض التشاريع لهذه النقطة وعملت على توسيع حدود مفهوم الرشوة الانتخابية وذلك عبر:
- توسيع مفهوم الناخب : من ذلك إن عديد التشاريع تستعمل عبارة الناخب في صيغة المفرد « ناخب « وفي صيغة الجمع ( مجموعة من الناخبين ) وعلى عكس الفصل 161 من قانون الانتخابات التونسي الذي استعمل عبارة «الناخب» مرتين في صيغة المفرد وكأن الرشوة الانتخابية تكون دائما فردية وبالتالي فانه لا يجرم «الرشوة الانتخابية» التي لا تستهدف ناخبا معينا بل يستهدف قطاعا من الناخبين «ليس بصفة فردية ولكن بصفة جماعية عبر الهيبات والعطايا او ما يعرف» بالاعمال الخيرية».
- توسيع مفهوم التبرعات العينية والنقدية المنصوص عليها بالفصل 161 الى كل المنافع والامتيازات والهيبات التي تسلم للناخب مباشرة او تسلم كذلك لجهات ادارية ومؤسسات ( مدرسة,مستشفى , بلدية , جمعية رياضية...) والتي يحصل للناخب من خلالها نفع معين أو «رضا واعجاب» بالمتبرع الذي يستغل ذلك للتأثير على الانتخابات وتحويل ذلك «التبرع» الى رصيد انتخابي يوجه ارادة الناخبين إلى وجهة معينة.
فمفهوم «الرشوة الانتخابية الجماعية» والذي يخص مجالا واسعا وغير محدد من الناخبين هو مفهوم متداول في عديد القوانين الانتخابية في محاولة لاصلاح انظمة الانتخابات ووجدت بعض تعبيراتها في الفصل 205 مثلا من قانون الانتخابات لدولة غينيا الذي استعمل عبارة الناخب المستهدف بالرشوة في صيغة الفرد او الجماعة (un ou plusieurs électeurs) وفي صيغة الجمع غير المحدد un collège d’ électeurs ( مثل منطقة بلدية معينة أو حي سكني معين أو «دوار» في احد الارياف ...).
فمفهوم الرشوة صار يشمل كذلك الهيبات والتبرعات التي تسند للناخب او الناخبين مباشرة وفرديا او يسند لهم جماعيا وبصفة غير مباشرة مثل الاتفاق مع بلدية او إدارة معينة بناء مرفق عمومي للمواطنين ( ملعب, مستوصف...) فهذا الفعل متى كان مقدمة لعملية ترشح في الانتخابات يكون « رشوة انتخابية جماعية « يجرم بالقانون ويمنع من انتخابات «نزيهة وحرة» ويبطل صحة عملية الاقتراع.
ويهدف هذا الإصلاح ( عبر توسيع احكام الفصل 161) الى :
- ارجاع الانتخابات الى منافسة سياسية بين السياسين (أحزاب/ افراد ...) عبر برامج وأفكار سياسية وليس منافسة بين مجموعة من «المحسنين» الذين يتنافسون على «فعل الخيروالاحسان».
- ارجاع «العمل الخيري» إلى هدفه ومقصده النبيل وتخليصه من خلفيته السياسية لان العمل الخيري اذا كان بهدف سياسي يصبح قانونيا واخلاقيا «عملية تحيل» هدفه التأثير على إرادة الناخبين فيفسد نزاهة الانتخابات ويلغي حرية الناخب .
II - منع السياحة الحزبية:
إن من اخطر المشاكل على الاستقرار السياسي والثقة بين الناخب والمنتخب هو ما صار يعرف «بالسياحة الحزبية»أو «السياحة البرلمانية».
فسهولة الانتقال بعد الانتخابات لنواب من حزب الى آخر ومن كتلة الى كتلة خلق حالة من الارباك في المشهد والتشكل البرلماني لأنه من السهل ان تتحول مراكز الكتل بين الأكثرية والأقلية كما ان البرلمان يشهد خلق كتل مصطنعة قد يكون في كثير من الأحيان للمال السياسي الفاسد دور في ذلك .
ولئن لم ينظم التشريع التونسي هذه المسالة على خطورتها فان التشريع المغربي ( دستور 2011 ) وحتى التشريع الجزائري ( دستور 2020 ) قد نظم ذلك وتدخل في الموضوع بالفصل 61 من دستور المغرب لسنة2011 الذي جاء فيه « ... يجرد من صفة عضو في إحدى المجلسين كل من تخلى عن انتمائه السياسي الذي ترشح باسمه او الفريق او المجموعة البرلمانية التي ينتمي إليها ...».
بهذه القاعدة الدستورية أغلق المشرع المغربي إمكانية السقوط في « السياحة السياسية « ( قد يكون المشرع قصد ذلك لانها اشمل من السياحة الحزبية او البرلمانية) وارجع للعملية الانتخابية وعقد الثقة (الوكالة ) التي يربط بين الناخب والمنتخب صدقيته وأثاره القانونية والأخلاقية.
فالناخب الذي اختار نائبا معينا على أساس انتماء سياسي معين وعلى أساس أراء فكرية وسياسية كان يأمل ان تجد هذه الآراء والسياسات صداها في البرلمان عبر النائب المنتخب (الوكيل ) وبالتالي فان هذا النائب مؤتمن على ذلك وليس من حقه ان يغير الصفة و الخاصية الشخصية التي وقع اختياره على أساسها , آما إذا أراد ان يغير انتماء السياسي- وهو حرفي ذلك باعتبار ان عقد الوكالة/ النيابة ليس زواجا كاتوليكيا- فان صفته كنائب تسقط بقوة القانون .
هذا يعني ان الصورة او الهوية السياسية التي يتقدم بها النائب للانتخابات (باعتباره مثلا مدافعا عن القطاع العام أو مؤمنا بالوحدة المغاربية او مع اقتصاد السوق او ضد العملة الاروبية الموحدة ..) هي التي كانت أساس انتخابه و الشرط الذاتي للاختباره من قبل الناخبين هذه الصفة والشخصية ليس من حق النائب تغيرها والا فان هذه الاتفاق الوكالة / التفويض قد انفسخ اليا بقوة القانون كلما نص على ذلك حرفيا الفصل 120 من الدستور 2020 الجزائري.
اذا كان كل من دستور الجزائر 2020 ودستور المغرب 2011 قد نضما مسالة « السياحية الحزبية والسياسية « فان الدستور التونسي قد تجاهل كليا هذه المسالة مما تتسبب في عديد المشاكل التي لا تخفي على احد وبالتالي فانه بات من الملح اليوم اندراج هذه القاعدة القانونية في الدستور حماية لنبل الفعل السياسي من ما بات يعرف «بالمركاتو Mercato» السياسي.

III - منع البارونية النيابة او الاحتراف السياسي:
أكدت عديد الدراسات ان من اكبر سلبيات والإخطار التي تهدد الحياة السياسية اليوم وخاصة تهدد الديموقراطية هو ما بات يعرف بالبارونية Baronisme السياسية اي الاحتراف السياسي وهي ان يصبح الفعل السياسي وخاصة النيابي فعل مستحوذ عليه من مجموعة معينة لها الإمكانيات المادية و« الماكينات» الانتخابية (Machine électorale) بما يسمح لها بالسيطرة على المشهد السياسي وتحديدا النيابة البرلمانية وتمارسه بصفة محترفة.
فالبارونية السياسية تتطلب ان يكون نائب معين ينوب منطقة معينة منذ عقود وبشكل متواصل بنوع من الإقطاع السياسي وهو الأساس الذي ينتج واقعيا واجتماعيا علاقات الزبونية السياسية ( او ما يعرف اليوم بالاستزلام السياسي) Clientélisme politique ويصبح الفعل السياسي / النيابي (بما في ذلك الوجود في مجلس سلطة محلية مثلا ) عملا مثمرا ومربحا للسياسي ومن حوله من أنصار و «ازلام» ( حسب مفهوم علم الاجتماع السياسي) فيتقاسمون نتائج الفوز في الانتخابات ويدافعون بالطرق الأكثر شعبوية على اعادة الانتخاب.
وبمراجعة التشريع التونسي نجد انه لا يمتع قانونا من هذه الوضعيات السوسيو ــ السياسية Socio- politique وخاصة في المستوى النيابة لدى البرلمان او لدى المجالس المحلية
على عكس المشرع الجزائري في دستور 2020 الذي تفطن لهذا الخلل الجسيم من منظومة الديمقراطية بان نص صراحة بالفعل 122 بأنه يمنع على النائب ان يكون عضو في البرلمان أكثر من مرتين «متتابعتين او منفصلتين» .

وفوائد هذا المنع ثابتة وأكيدة وهي :
- تجاوز ما يعرف في علم الاجتماع السياسي بالنواب او رؤساء البلديات مدى الحياة « Le représentant à vie» لما في ذلك من خطر عن العملية الديمقراطية .
- تجاوز بعض السلوكات الشعبوية في الحياة السياسية التي تجعل من المنتخب لاهم له سوى اعادة انتخابه وبالتالي فان كل تصرفاته تتسم «بالشعوبية» و«القطاعية» والعمل المحموم على ارضاء جمهور ناخبية على حساب التركيز في المسائل العامة والجماعية ( الوطنية ).
- تجاوز علاقات الاستزلام السياسي ( الإقطاع السياسي) والاستثمار في العمل السياسي باعتباره «حرفة» و «احتراف» فيه منافع خاصة ومشتركة مع جمهور الأتباع و الأنصار على حد قول ابن خلدون من ان «التملق مفيد للجاه والجاه مفيد للمال» .
- تجاوز سلبية ما يعرف بالانتخابوية Electoralisme وهو السلوك السياسي الذي يجعل من الفوز في الانتخابات غاية في حد ذاته وهدفا وحيدا غايته الحصول على الأصوات بكل الطرق بما فيها «الشعبوية» و«الديماغوجية» (Démagogie/ Populisme ) وهي بالضرورة مسلكية لا علاقة لها بالعمل السياسي الديمقراطي والمنافسة النزيهة ويجعل العملية الانتخابية عملية صورية لا علاقة لها بإرادة الناخب الحقيقية .

IV - تعديل نظام الحصانة البرلمانية:
تمتع نواب الشعب منذ عهود قديمة بالحصانة حماية لهم من بطش السلطة التنفيذية.
ولكن مع مرور الوقت وظهور مفاهيم سياسية وفلسفة جديدة اصبحت معها مسالة الحصانة محل نقد من قبل عديد الباحثين والدارسين وذهبت بعض التشاريع لالغاءها (على أساس مبدأ المساواة مع المواطنين ) او التعديل منها والتقليص من مجالها وفاعليتها .
ولكن رغم هذا الاتجاه العام المتحفض عن الحصانة فان دستور 2014 في الفصلين 68 و 69 كرس امتياز الحصانة بشكل شامل وموسع ( حصانة عدم المسؤولية / بالفصل 68 وحصانة عدم التتبع / الفصل 69 ) وقد كان هذا الموقف:

- محل نقد من اكثر من جهة وخاصة نشطاء المجتمع المدني وجمعيات الشفافية ومكافحة الفساد محليا ودوليا باعتبار ان مما وقع إثباته بما لا يدع مجال للشك وان «كلما توسع مجال الحصانة كلما توسع مجال الفساد وتقلص مجال الشفافية».

- ان هذه الفصول تمثل اليوم عائقا أمام العدالة وخاصة أمام مكافحة الإفلات من العقاب لان ما تتداوله بعض التقارير الصحفية وان عدد هام من النواب اليوم موضوع تتبع جزائي خطير معطل بالتحصن بالحصانة وعجز المجلس على الاستجابة لمطلب رفع هذه الحصانة .
ولقد ذهب المشرع المغربي في دستور2011 وتحديدا بالفصل 64 منه على اقرار حق النائب في الحصانة البرلمانية « بمناسبة .. او خلال مداولته لمهامه» دون سواه بما يعني وان المشرع المغربي وعلى عكس المشرع الليبي ( دستور 2016 ) والموريطاني (دستور 2017 ) قد اكتفى بالحصانة للنائب في خصوص «عدم المسؤولية» المتعلقة فقط بالعمل النيابي اي الحماية بمناسبة وبسبب العمل النيابي . هذا التوجه الذي تجاهله الدستور التونسي الذي أعاد صياغة ما كان مكرس في دستور 1959 واقر حصانة شاملة تحمي «عمل النائب» وهذا معقول الى حد ما وتحمي كذلك «شخص النائب» في حياته العادية .
فدستور 2014 كان في ما يهم موضوع الحصانة تقليديا جدا ويمكن اعتباره «دستور غير ديمقراطي» وغير منسجم مع التمشي العام اليوم في السعي للحد من الحصانة النيابية (والحصانة عموما حتى لغير النواب ) وعليه فانه من المتجه اليوم وفي اطار مصالحة دستور 2014 مع «روح العصر» والأفكار السياسية الجديدة ومزيد توفير شروط المساواة والشفافية ومحاربة الفساد والإفلات من العقاب لا بد من:

- حذف الفصل 69 والإبقاء فقط على الفصل 68 المتعلق بالحصانة للعمل النيابي ( كما فعل ذللك المشرع الهولندي والمشرع المغربي على سبيل المثال ).

- الإبقاء على حصانة النائب في ما يخص مسؤولية الأفعال عن العمل النيابي دون سواه مع إخراج سلطة البت في رفع الحصانة في هذه الحالة من المجلس النيابي وإسنادها للقضاء كما نص على ذلك الفصل 130 من دستور الجزائر لسنة 2020 الذي جاء فيه « في حال عدم التنازل عن الحصانة يمكن لجهات الإخطار إخطار المحكمة الدستورية لاستصدار قرار بشان رفع الحصانة من عدمها «. اذا فالدستور الجزائري الجديد ( دستور ما بعد الحراك ) ابقى على الحصانة للنائب بفرعيها ( حصانة عدم المسؤولية/ حصانة عدم التتبع ) لكنه اخرج قرار رفع الحصانة من المجلس النيابي حيث يرتهن للتوازنات والتحالفات داخل البرلمان وأسنده للمحكمة الدستورية .

V - توسيع دور الاستفتاء عموما والاستفتاء العزلي خصوصا:
ما يمكن ملاحظته بسهولة ان التشريع التونسي (الدستور / قانون الانتخابات الاستفتاء ) قد اعطى الاستفتاء مكانة هامشية ويكاد يكون بدون أهمية عملية تذكر رغم ان الفصل 50 من الدستور اكد على ان الشعب «يمارس السلطة التشريعية عبر ممثليه بمجلس النواب او عن طريق الاستفتاء» لانه لم يقع إقرار قاعدة عامة يمكن من خلالها الشعب على ممارسة السلطة التشريعية بواسطة الاستفتاء الذي لا يقع اللجوء إليه الا بصفة استثنائية كما نص على ذلك صراحة الفصل 82 من دستور 2011. فخلافا لعديد الدساتير - وخاصة دساتير الديمقراطيات الحديثة اي ديمقراطيات ما بعد سقوط جدار برلين – فان الدستور التونسي تجاهل كليا إمكانية اقرار المبادرة التشريعية بواسطة الشعب مباشرة وإمكانية عرضها كذلك مباشرة على الاستفتاء ويعتبر ذلك خللا كبيرا اليوم في منظومة الديمقراطية التي بدأت تتجه أكثر ما يمكن في اتجاه الديمقراطية شبه المباشرة عبر تشريك الشعب بالمبادرة التشريعية ( وهو ما ذهب إليه دستور المغرب 2011 ودستور ليبيا 2016 بصفة اقل دستور الجزائر 2020) وكذلك بممارسة فعلية للسلطة التشريعية عبر الاستفتاء ( كما نص على ذلك نظريا الفصل 3 والفصل 50 من الدستور2014 ) .

ففي غياب منظومة قانونية اليوم تنظم المبادرة التشريعية والاستفتاء التشريعي الشعبي المباشر يجعل من دستور 2014 - دستور ما بعد الثورة - سجين لمفاهيم واليات تقليدية لم تعد مقبولة من العديد من الدارسين والمفكرين وتجاوزتها عديد التشاريع والدساتير المقارنة ..
الى جانب ذلك , فانه من المتجه اليوم إقرار قاعدة قانونية عامة ودستورية تقر مبدا الاستفتاء العزلي اي حق الناخب في عزل من انتخب باعتبار وان العهدة النيابية هي علاقة قانونية أساسها « الوكالة « وبالتالي من حق من اسند الوكالة سحبها متى اعتبر ان الوكيل / النائب قد خالف شروط الوكالة.
هذه القاعدة القانونية ( حق العزل Droit de révocation/) هي القاعدة المنصوص عليها بالأنظمة القانونية المقارنة وتخص كل مستويات التمثيل والنيابة وتوجد في التشاريع والدساتير الخاصة بالديمقراطيات الحديثة مع أنها بدأت تتسرب للديمقراطيات التقليدية ومنها التشريع الأمريكي الذي قنن في 23 ولاية حق العزل ويمارس اليوم بشكل يومي ومتواصل والتشريع الانقليزي الذي أقر حق عزل نواب البرلمان مباشرة من قبل الناخبين منذ سنة 2015 .

VI- اشتراط حد أدنى من المؤهل التعليمي
لم يشترط قانون الانتخابات في الفصل 19 ( الخاص بمجلس النواب ) او الفصل 40 ( الخاص برئيس الجمهورية) ضمن شروط الترشح اي مؤهل تعليمي وكأن تسيير الشأن العام مسالة بسيطة لا تتطلب ايه تكوين او معارف.
وقد يكون المشرع الليبي قد أدرك هذه النقطة وخطورتها باعتبار أهمية الموضوع وما يستلزم الأمر من حد ادنى من المعارف والتعليم والدراسة فاشترط في الفصل 79 من الدستور ان يكون للمترشح بالمجلس النيابي « مؤهل تعليمي « واشترط كذلك على كل مترشح لخطة رئيس دولة « مؤهل جامعي او مما يعادله « ( الفصل 111 من الدستور الليبي )
ولعل اشتراط حد ادني من التعليم مسالة ضرورية اليوم لما يتطلبه العمل التمثيلي والمسؤولية العامة من التحصيل العلمي والتفتح على بعض اللغات لتسهيل العمل النيابي وإمكانية الاتصال والتواصل والاطلاع على تجارب الغير وما يصدر من أبحاث ودراسات عدد كبير منها له صلة مباشرة بالوضع الاقتصادي والاجتماعي للبلاد.
إذا بات من الأكيد ان يقع تعديل قانون الانتخابات والدستور باشتراط حد أدنى من المؤهل التعليمي لصحة كل مطلب للترشح لخطة تمثيلية/ سياسية معينة (مجالس السلطة المحلية / المجلس النيابي /رئاسة الجمهورية ...).

• الخاتمة:
في المحصلة وبعد مراجعة التشاريع المقارنة نلاحظ أن:
• التشريع التونسي لما بعد الثورة ( قانون الانتخابات / الدستور ...) جاءت فيه عديد الهنات والنقائص أدت إلى الحالة التي يعرفها ويعيشها الجميع اليوم.
• ان التشاريع المقارنة وخاصة القريبة منا وتحديدا المغربي كان اكثر عصرانية Modernité ومواكب أكثر لأفكار ورؤى الإصلاح التي وجب إدخالها على الأنظمة القديمة والديمقراطية الكلاسيكية ( التي لا شك اليوم أنها في قمة أزمتها ) على خلاف الدستور التونسي الذي كان تقليديا وحتى «غير ديمقراطي» بالمعنى المتداول اليوم للديمقراطية (مفهوم الجيل الجديد من الديمقراطية).

• ان التشريع التونسي اراد بكل الطرق غلق كل منافذ « عودة الاستبداد « لكنه في نفس الوقت فتح أكثر من ممر أمام تسرب حياة سياسية هجينة وديمقراطية شكلية بكثير من الشعبوية والزبويية أساسها الانتخابوية وهو بالتالي عاجز على توفير شروط أساسية لانتقال ديمقراطي حقيقي واستقرار سياسي و اقتصادي دائمين.
• ان اختيار نظام انتخابي أخر غير موجود اليوم قد تكون اثاره الايجابية محدودة دون توسيع مفهوم « الرشوة انتخابية» وفك الارتباط بشكل صارم بين «العمل الخيري» و«العمل السياسي» بتبني مفهوم « الرشوة الانتخابية الجماعية «ودون قطع الطريق أمام امكانية استعمال «الحصانة» للهروب من العقاب وممارسة الفساد السياسي وهي الإصلاحات التي أقدم عليها غيرنا بكل شجاعة .

• ان اختيار نظام حكم أخر (النظام الرئاسي أو شبه الرئاسي ..) قد يتحول الى نظام حكم فردي اذا لم يقع إعطاء حق العزل للناخب كما فعل ذلك المشرع الروماني والفنزويلي وغيرهما لانه من المتفق عليه وان الديمقراطية اليوم بحق الانتخاب فقط دون حق العزل هي ديمقراطية عرجاء وهي ديمقراطية شكلية لم تعد تستجيب لحاجيات المجتمع وطموحاته التاريخية المشروعة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115