الذي أسرع لنجدة مريض وإنقاذه من الهلاك . وسارع إلى المصعد الذي عوضا أن يوصله بسلام ابتلعه وقضى على نفسه الطاهرة .
إنها مأساة بأتم معنى الكلمة خلَفت آلاما لعائلته وخاصة والدته التي سبق لها أن فقدت زوجها في ظروف شبيهة وهي مثقلة بحمل أبنائها والتي صرحت بكل حسرة وأسى بأنها قدمت للدولة رجلا صالحا وابنا سويا، قدمت زوجها فداء للوطن وابنها ضحية إهمال الدولة والمسؤولين كما خلفت هذه المأساة احتجاجات بكل من جندوبة والقصرين وبكامل الوطن ودفعت الهياكل الطبية النقابية بالقطاع العمومي إلى إعلان الثلاثاء 8 ديسمبر 2020 يوم غضب وطني .
دعا ائتلاف المجتمع المدني للدفاع عن المرفق العمومي والجامعة العامة للصحة ونقابة الأطباء والصيادلة وأطباء الأسنان للصحة العمومية والاستشفائيين والمنظمة التونسية للأطباء الشبان، كافة المهنيين العاملين بقطاع الصحة العمومية المشاركة في يوم الغضب تحت شعار «منع سبيطارك أنقذ حياتك»
إنَ تلك الفاجعة عرَت نقائص بلادنا وكشفت عيوبنا وما المصعد المعطًل إلا الشجرة التي تحجب الغابة.
هذه الغابة التي تتميز ببنيتها التحتية المهترئة ومسالكها الوعرة ومؤسساتها البالية وبالعلاقات الاجتماعية القاتمة.
إنَ البنية التحتية ببلادنا أصبحت متدهورة بسبب انعدام الصيانة. فعديد المدارس مثلا أصبحت غير صالحة للتدريس وعديد المحاكم أصبحت بفعل الاكتظاظ وتراكم الملفات وضيق المكاتب والقاعات غير مؤهلة لتأمين ظروف المحاكمة العادلة ، كما أن المستشفيات صار بعضها غير صالح للعلاج وعرت عيوبها جائحة كرونا وفضحت النقص الفادح في الموارد البشرية والمالية وفي التجهيزات والأدوية والمعدَات من أسرَة وأكسيجين وأقسام إنعاش ...
حتى أن وزير الصحة صرَح بأن مستشفياتنا العمومية أصبحت مقبرة للأطباء والمرضى.
إنَ المؤسسات العامة من محاكم ومستشفيات ومدارس وغيرها أصبحت تفتقر حتى لبيوت الراحة وأبرز مثال على ذلك بعض أقسام المجاري البولية بالمستشفيات العمومية.
إنَ عديد الملاعب الرياضية أصبحت بسبب الإهمال المتواصل غير صالحة لممارسة الرياضة وتحدث الضجر للمرء عند مشاهدته للمباريات مقارنة بالملاعب والقاعات في جلَ بلدان العالم المتحضر.
أما الفضاءات الثقافية في بلادنا من دور ثقافة وقاعات سينما ومسارح ومكتبات فقد أصبحت نادرة وبعضها في حالة إهمال أو أقفلت تماما وأصبحت مهجورة.
إن مسالك التنقل سواء داخل المدن أو غيرها أصبحت في حالة يرثى لها، إذ بقدر ما نستبشر كل مرة بالغيث النافع، بقدر ما تغرق عديد المدن في الأوحال وتنتشر الروائح الكريهة بفعل الفيضان المتأتي من الأمطار ومن قنوات المياه المستعملة، نتيجة عدم صيانة القنوات وترك بعضها دون أغطية واقية تحمي المارَة وهو ما تسبب في إزهاق أرواح بشرية بريئة في ظروف مأساوية مثل المرحومة الطفلة فرح التي سقطت في بالوعة يوم 5 أكتوبر 2020 أو مثل المرحومة مريم الذهبي التي توفيت غرقا يوم 23 نوفمبر 2020 وهي في سن 21.
إن وسائل النقل وخاصة الحافلات والقطارات أصبحت جلَها نتيجة قلة الصيانة في حالة سيئة ولا تقدر على استيعاب الركاب ونقلهم في ظروف آمنة ومريحة.
أما عن حالة الطرقات فحدَث ولا حرج بفعل غياب الصيانة وانتشار الحفر و المطبات وهو ما يتسبب في إلحاق عديد الأضرار بالسيارات واستيراد قطع الغيار ويرهق مدَخرات البلاد من العملة الصعبة ويِؤثر سلبا على قيمة الدينار في الأسواق العالمية.
سرعان ما تظهر للعيان عيوب الطرقات الجديدة بفعل الغش في إحداثها وغياب الرَقابة وانعدام المساءلة وقد تمَ الكشف في هذا المجال عن عديد الصفقات التي شابها الفساد أو بسبب قبول العروض الرخيصة دون التثبت من مصداقيتها.
هكذا تخلت مؤسسات الصحة العمومية والمدرسة العمومية والنقل العمومي عن دورها الاجتماعي مما تسبب في معاناة أغلب فئات الشعب التونسي.
إنَ التقرير الذي أعدته وزارة المالية المرافق لمشروع قانون المالية يبين بوضوح الوضعية الهيكلية والمالية الصعبة التي تعيشها جل المؤسسات العمومية.
فعلى سبيل المثال أدى العجز الهيكلي لكل من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية إلى ارتفاع ديونها لدى الصندوق الوطني للتأمين على المرض بحوالي 4691 مليون دينار أما المستشفيات العمومية فهي مدينة للصيدلية المركزية للبلاد التونسية بمبلغ يفوق 1186 مليون دينار .
ولقد تسبب تعطل الإنتاج بسبب الإضرابات والاعتصامات ببعض المنشآت الهامة على غرار شركة فسفاط قفصة إضافة إلى إشكاليات النقل وتعطل الخط الحديدي 15 نتيجة تأخر استثمارات الشركة الوطنية للسكك الحديدية إلى حصر نشاط المجمع الكيميائي التونسي في حدود 39 ٪ ثمَ توقفه كليا كما تعطل إنتاج البترول لمدة طويلة.
أما الشركة الوطنية للسكك الحديدية فقد بلغت مديونيتها سنة 2018 1179.5 مليون دينارا وارتفعت مديونيتها تجاه الدولة التونسية بنسبة 152 ٪.
إذا كانت البنية التحتية والأوضاع المؤسساتية مترديَة فإن تردي المسألة الثقافية والتوعوية أشدَ وقعا.
لقد نجحت الشعوب المتقدمة في الوصول إلى ما هي عليه الآن من تطور حضاري وثقافي بفضل التزامها بالنظام والقانون والإيمان بقيم العمل وبالمصلحة العامة.
أما في بلادنا التي عرفت حراكا ثوريا منذ عشر سنوات فإن الأنانيَة والمصلحة الذاتية المفرطة أصبحت الثقافة السائدة والموجهة لسلوك أغلب الناس كما صارت قيم العمل والصدق والإخلاص والثقة عملات نادرة ببلادنا.
لقد أصبحنا نعيش في إطار صعود الفردانية سواء كانت ذاتية أو قطاعية أو جماعية لأن ثقافتنا الاجتماعية تقوم على التعصب للرأي والتمسك به.
إنَ الفرد يضحي بالمصلحة الجماعية لغاية حماية مصلحته الشخصية التي يسعى الى تحقيقها بكل الطرق حتى بالرد العنيف والغير مشروع لأن لديه الغاية تبرر الوسيلة.
والاحتياجات أصبحت في جلَها قطاعية أو جهوية.
أما النرجسية فهي عملة رائجة يعشقها أغلبية التونسيين الذين يلهثون وراء حب الظهور فهم يعتقدون عن خطأ بأن المرء مركز الكون و يحتكر الحق لنفسه وبذلك يتعصبون لأرائهم ومواقفهم و يخضعون للعنف والتعصب دفاعا عنها ولا يحترمون الرأي المخالف وبفعل تسَرعهم في إصدار الأفكار واتخاذ المواقف يرتكبون أخطاء فادحة ويتوهمون بأنهم مازالوا على حق.
وأكبر دليل على ذلك الحركة المرورية ببلادنا التي تذيق المرَ لكل مستعمل للطريق سواء كان مترجلا أو ممتطيا لسيارة أو دراجة نارية أو عادية. حيث أصبحت المدن الكبرى تشهد فوضى مرورية فالأرصفة صارت مأربا للسيارات مما يضطر المارة إلى السير فوق المعبَد والأنهج. و في أوقات الذروة يختلط المارة بالسيارات على إيقاع أصوات المنبهات وصفارات أعوان الأمن حتى يخال الناظر أنه يوم النفير، الكل مستعجل وقلق، قليلون هم الذين يلتزمون بخط السير وبقواعد المرو، عديدون من لا يحترمون إشارات و قواعد المرور ويستعملون الهواتف الجوالة أثناء السياقة. وقد يقدم بعضهم على التجاوز الممنوع والسير في الاتجاه المعاكس والممرات الممنوعة وخرق الأولوية في تحدَ صارخ للقانون دون مراقبة ولا مساءلة منتظمة ومستمرة.
إن الفوضى المرورية لا تقتصر على المدن بل إنها عمَت جلَ المسالك المرورية.
إن حالة الطرقات والإفراط في السرعة تتسبب في عديد المآسي وعلى رأسها الحادث الذي جد سنة 2019 في الطريق الرابطة بين عمدون وعين دراهم والذي تسبب في هلاك 26 شاب وشابة وجرح 18 آخرين .
لقد أكَد المرصد الوطني للسلامة المرورية أنَ عدد حوادث المرور المسجلة سنة 2019 بلغ 4915 و أسفر عن وفاة 912 وجرح 7052 شخص .
نحن في حاجة إلى إطلاق خطة مرورية تضمن السلامة وتلتزم بالمواصفات الدولية في مجال حركة المرور والإقتداء بالأنظمة المرورية الذكية التي أقرتها عديد الدول ومن بينها بعض الدول العربية. كيف يمكن إجراء الإصلاحات الجوهرية وإيصال البلاد إلى بر الأمان في ظلَ ركود اقتصادي واحتقان اجتماعي وتناحر سياسي خاصة داخل قبة البرلمان وصل حد استعمال العنف المادي واللفظي وعلى مرأى ومسمع من كل َ المشاهدين. إن جنوح النواب إلى ذلك يبرز رغبتهم في إثبات الذات والدفاع عن المصالح الحزبية الضيقة وهو ما يعكس شخصية التونسي الميال إلى العنف و الفردانية.
إنَ الغرب حقق الرقي والتطور بفضل إقرار حرية الرأي والتعبير نصَا وممارسة واحترام الآخر في أرائه ومواقفه حيث اسـتغلَ الغرب الاختلاف ليجعل منه إطار حوار لإصلاح الأخطاء وآلية دفع وتطور وتعاون بفضل تلاقح الأفكار بدلا من آلية التفرقة والتنازع والتطاحن الرائجة لدينا.
من هنا تكمن أهمية الحوار الجدي والبناء والمسؤول من أجل القيام بالإصلاحات الضرورية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية. قصد اصلاح المنوال التنموي و دفع الاستثمار و التقليص من البطالة و اصلاح المنظومة التربوية و الصحية و الأمنية و القضائية كإصلاح الإدارة العمومية مركزيا و جهويا و محليا و تحسين جودة و نجاعة المرافق العمومية و خاصة إعادة الاعتبار نصا و ممارسة للمبادئ و القيم الإنسانية.
أملنا في الحوار مثلما حصل سابقا و ما أنكد العيش لولا فسحة الأمل.
المصعد المعطًب بمثابة الشجرة التي تحجب الغابة
- بقلم المغرب
- 10:58 12/12/2020
- 1098 عدد المشاهدات
بقلم : عبد الستار بن موسى
فجع الوطن والأسرة الطبية بفقدان الحكيم الشاب الجراح بمستشفى جندوبة الدكتور بدر الدين العلوي،