تمكننا من السيطرة على الأمراض ونجحنا في التحكم في الطبيعة ومسك أهم تحدياتها تأتي جائحة الكورونا لتعيدنا إلى هشاشة الإنسانية وعجزها أمام سطوة الطبيعة وغضبها وثورتها أمام العالم الحديث وسردية التقدم وقدرتنا على بناء العالم الأمثل .
وكانت هذه الجائحة وراء محاولات تفكير جدية لإعادة النظر في تنظيم العالم .وقد فتحت هذه الجائحة فترة من التحولات والتغييرات الكبرى في عديد الميادين والمجالات ومن ضمنها الصحة والسياسة والعلاقات الاجتماعية .
وكان للمجال الاقتصادي دوره في التحولات التي يشهدها العالم ليدخل عالم الاقتصاديين والسياسات الاقتصادية بدورها في دوامة التفكير والتغييرات الجذرية.
وتطرح الجائحة تحديثات جديدة وخطيرة في العالم الاقتصادي وتفتح عالما جديدا من المخاطر خلناه وراءنا . إلا أن هذه التحديات والمخاطر فتحت باب البحث والتجديد والتفكير من أجل إيجاد آفاق جديدة للاقتصاد والعلاقات الاجتماعية الإنسانية .
• التحديات:
فتحت جائحة الكورونا مرحلة جديدة من التحديات الكبرى في الميدان الاقتصادي في بلادنا كما هو الشأن على المستوى العالمي .
ولعل أولى هذه التحديات تهم الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية لهذه الجائحة . فتشير أغلب الدراسات الى أن الاقتصاد العالمي سيشهد سنة 2020 أحلك الفترات في تاريخه منذ الحرب العالمية الثانية .
فسيعرف الانكماش الاقتصادي أحد أهم تراجعاته وسيسجل مستوى انحسار لم نشهده في السابق . وكما هو الشأن للاقتصاد العالمي فإن بلادنا ستعرف – كذلك - تراجعا لم تعرفه منذ الاستقلال .
كما سيكون لهذا الانكماش الاقتصادي انعكاسات اجتماعية كبيرة مع تصاعد البطالة وارتفاع مستويات الفقر في أغلب بلدان العالم .
أما التحدي الثاني الذي تطرحه الجائحة فيهم عدم وضوح الرؤيا والضبابية الكبرى التي تميز المستقبل. والتذبذب وعدم الوضوح سيشكل أهم التحديات التي يعيشها الاقتصاد ويخشاها الاقتصاديون .فضبط السياسات الاقتصادية وتحديد مستوى وطبيعة التدخلات تتطلب الكثير من الوضوح وقدرة على التوقع والقراءة لمستقبل التطورات الاقتصادية والاتجاهات الكبرى للنمو.
أما التحدي الثالث فيخص السياسات والتصورات والرؤى التي يجب تطبيقها ووضعها من أجل هذه التحديات . فالأزمات الكبرى تتطلب ابتكارا وقدرة على ضبط سياسات وتصورات جديدة من اجل فتح آفاق جديدة للنمو والتطور الاقتصادي والإبداع والابتكار وذلك ليس بالعملية السهلة في المجال الاقتصادي الذي يغلب عليه في عديد المجالات الأخرى الجانب المحافظ ومحاولة المواصلة في السياسات التقليدية خوفا من الجديد ومن انعكاساتها غير المنتظرة والسلبية في بعض الأحيان .
التحدي الرابع والهام في الأزمات الاقتصادية الكبرى والجائحة التي نعيشها اليوم مسألة التمويل .فهذه الأزمات تتطلب في الكثير من الأحيان إمكانيات مادية كبرى واستثنائية لحماية الاقتصاد والمؤسسات الاقتصادية من العجز والإفلاس.كما تسعى الدول الى تجميع الإمكانيات المالية للوقوف إلى جانب الفئات الاجتماعية الأكثر تضررا والأكثر هشاشة لحمايتها من الفقر المدقع الذي ينتظرها .
• المخاطر:
وتطرح هذه التحديات الكثير من المخاطر على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والتي تهدد الاقتصاديات الحديثة . وكما هو الشأن بالنسبة للازمات الاقتصادية الكبرى فإن هذه الجائحة تطرح الكثير من المخاطر على الاقتصاد .
ولعل من أهم المخاطر التي فتحتها هذه الأزمة والانعكاسات السلبية للجائحة تخص الأزمة الاجتماعية فكما أشرنا نتج عن هذه الأزمة والانكماش الاقتصادي الذي نعيشه ارتفاع كبير في البطالة في كل أنحاء العالم . كما أضافت هذه الأزمة تزايدا كبيرا في التفاوت بين الشرائح الاجتماعية وارتفاعا في نسب الفقر والتهميش الاجتماعي .
الخطر الثاني الذي تثيره هذه الجائحة بكل حدة يهم شبح الإفلاس الاقتصادي الذي يهم لا فقط المؤسسات الاقتصادية بل كذلك الدول . وبالرغم من ان اغلب دول العالم وخاصة المتقدمة منها قد وضعت برامج إنقاذ اقتصادي لدعم مؤسساتها والدفاع على بقائها وديمومتها فإن الكثير من المؤسسات الكبرى لازالت على حافة الإفلاس وتمر بصعوبات مالية واقتصادية كبيرة .
وهذا الخطر وشبح الإفلاس لا يتوقف على المؤسسات الخاصة والعمومية بل يتجاوزه الى المستوى الكلي للدول.
فالجائحة تتطلب مصاريف هامة لدعم المؤسسات والوقوف إلى جانبها .فقد كانت للتدخلات الاجتماعية لدعم الفئات الهشة والمتضررة من الجائحة تكلفة مالية ضخمة وجب على الدول تحملها .هذه المصاريف كانت وراء تزايد عجز المالية العمومية لأغلب دول العالم لتجعلها تعرف صعوبات مالية كبيرة .
وللتخفيف من هذا العبء قامت عديد المؤسسات المالية العالمية والبلدان الكبرى ممثلة بمجموعة العشرين بإعطاء تسهيلات كبرى على مستوى المديونية ومن ضمنها تأجيل سداد الديوان .
إلا أن هذه التسهيلات لم تكن الكافية لتكون الفترة القادمة فترة صعوبات كبرى للدول قد تدفع ببعضها الى لإفلاس .
وتضعنا الأزمة الاجتماعية الخانقة وشبح الإفلاس الاقتصادي أمام خطر عدم الاستقرار السياسي الذي سيصعد من الأزمة التي تمر بها أغلب ديمقراطيات العالم.ويعيش النظام الديمقراطي في أحلك فتراته منذ سنوات مما أدى إلى فقدان الثقة في التمثيلية الديمقراطية وصعود الحركات الشعبوية ورفض النخب التقليدية في أغلب دول العالم . وظهور هذه الجائحة وانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية سيزيد من تعميق جراح الديمقراطيات وقد تفتح المجتمعات الإنسانية نحو المجهول .وفي هذا المجال لا يمكن أن ننسى أن صعود الفاشية والنازية في أوروبا جاء بعد اكبر الأزمات الاقتصادية وهي أزمة 1929.
جميع هذه المخاطر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قد تقود إلى خطر أكبر وهو انفراط حبات العقد الاجتماعي وتراجع المشترك والجمعي في المجتمعات الديمقراطية . وقد بدأنا نلاحظ حضور بعض التوجهات كالعائلة والعشيرة أمام تصاعد المخاطر وفقدان الثقة في قدرة الدولة على حماية المجتمع ورفع التحديات .
إن التحديات التي أتت بها الجائحة جاءت لتعمق الأزمات التي تمر بها المجتمعات الديمقراطية ولتفتحها على جملة من المخاطر الكبرى التي تهدد وجودها . وهذه المخاطر تتطلب إجابات واضحة وقوية لإعادة غرس الثقة في قدرة الدول والمجتمعات الحديثة على حماية الإنسان وفتح آفاق جديدة لتجربته التاريخية.
• الآفاق:
إن هذه الأزمات والمخاطر تشكل امتحانا لقدرة الإنسان والدول الحديثة على المحافظة على العقد الاجتماعي وإعادة بناء المشترك والجمعي في المجتمعات الديمقراطية .وفي رأيي فإن التعاطي مع هذه الأزمات يتطلب التأكيد على بعض المبادئ التي يجب أن تشكل قواعد العمل العمومي في فترات المخاطر الكبرى والتحديات .
والمبدأ الأول يعود إلى ضرورة العودة إلى الدولة الحامية للمجتمع والاقتصاد . لقد حاول المفكرون النيوليبراليون بكل جهود النأي بالدولة ودفعها الابتعاد عن الاقتصاد والمجتمع . إلا أن الأزمات الكبرى تذكر بأن الدولة الحديثة هي التعبيرة المكثفة عن إرادة الحياة ومشروع العيش المشترك في مجتمعاتنا .
المبدأ الثاني والهام يخص زرع الأمل في الخطاب السياسي وفي قدرتنا على تجاوز الأزمات وتخطيها . ففترات الأزمات تقترن بشيوع وتنامي خطاب اليأس والإحباط ويفتح هذا الإحباط الباب أمام المغامرة نظرا لتوق الناس لنظام قوي قادر على حمايتهم أمام تنامي المخاطر الكبرى .
وبهذا السبب يجب على الدولة وممثليها إضفاء جرعة كبيرة من الأمل لاستعادة ثقة الناس وإيمانهم بقدرة مؤسسات الدولة على بناء الغد الأفضل .
المبدأ الثالث والذي يجب أن يقود السياسات العمومية في الأزمات الكبرى يهم التوازن بين الابتكار والتغيير من جهة والمحافظة على جانب كبير من العقلانية خاصة في صياغة السياسات الاقتصادية . ففي هذه الفترة تدفع بعض القوى السياسات للخروج من السياسات التقليدية وضبط سياسات جديدة مغايرة جذريا . وتجد هذه أذانا صاغية عند العديد من المفكرين والاقتصاديين إلا أنه في بعض الأحيان تدفع هذه المطالب إلى سياسات شعبوية لن تزيد الطين الا بلة والأزمة أكثر عمقا .
لذلك يجب إيجاد هذا التوازن بين الخلق والعقلانية في فترات الأزمات والتحولات الكبرى .
المبدأ الرابع يهم التعاون الدولي ودعوة الأصدقاء للوقوف على جانبنا ودعمنا في هذه الفترات والأزمات الكبرى . فلا يمكن لنا الوقوف أمام الرياح العاتية دون دعم للمؤسسات الدولية والأصدقاء ووقوفهم إلى جانبنا .
لقد فتحت الجائحة فترة من التحولات الكبرى والمخاوف أمام مستقبل مجتمعاتنا . وفي رأيي فإن التحولات والمخاطر لا يجب أن تحجب عنا قدرة المجتمعات على الصمود وإعادة البناء . والى جانب الإجابات الاقتصادية التقنية فإن التعاطي مع هذه الأزمات يتطلب إجابات سياسية قوية من جانب الدول لإعادة ثقة الناس في المؤسسات وتجنيدهم لحماية المشترك الجمعي وإعادة بناء العقد الاجتماعي .
الاقتصاد في زمن الكورونا التحديات، المخاطر والآفاق
- بقلم حكيم بن حمودة
- 09:55 19/10/2020
- 1420 عدد المشاهدات
يمر العالم اليوم بأحد أهم وأخطر المنعطفات في تاريخنا الحديث. ففي الوقت الذي كنا نعتقد فيه انه بفضل تطور العلم والتكنولوجيا