إلى أغلب بلدان العالم .وإذا تجاوزنا الأسباب المباشرة للأزمة السياسية التي تعيشها بلادنا من تشرذم سياسي وغياب الثقة بين الفاعلين السياسيين نجد أن أسبابها عميقة تقع في حالة العجز والإحباط التي تعرفها الأحزاب السياسية والتراجع الرهيب في قدرتها على الفعل والتغيير الاجتماعي .
ولفهم هذه المسألة والتحدي الكبير الذي تعرفه الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية لابد من العودة إلى التاريخ لفهم الارتباط الوثيق بين تجربتنا السياسية والتجربة الكونية .
يعود ارتباط المجال السياسي في بلادنا بالمجال السياسي الكوني إلى منتصف القرن التاسع مع ظهور الحركة الإصلاحية ومحاولة تغيير الدولة والخروج من قرون التخلف والخروج من التاريخ وإعادة بناء النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي على أسس حديثة . ارتبطت محاولة إعادة إحياء الدولة بالأفكار والآراء السائدة في تلك الفترة التاريخية وتشبعت بالمشروع الحداثي الكوني وبأسسه الفسلفية والفكرية .
سيكون هذا الانفتاح على الآخر وعلى الثورة الفكرية التي تشق العالم لتقطع مع القديم وتفتح الأفاق على عالم جديد في جوهر تجربتنا السياسية الجديدة وفي خصوصيتها مقارنة بالتجارب الأخرى في المحيط العربي والإسلامي . وستكون هذه التجربة وراء القناعة التاريخية لنخبنا على قدرة السياسة بصفة عامة وسياسات الدولة على التغيير وتحسين الواقع نحو الأفضل .
ومن هنا كانت سياسات الدولة في مختلف المجالات من أجل محاولة الخروج من واقع التخلف وهيمنة المجتمع التقليدي والدخول في عالم الحداثة والتغيير .وقد شملت الإصلاحات جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليم .وكانت تحمل قناعة راسخة عند النخب بقدرتنا على الفعل وعلى التغيير الاجتماعي من اجل الانخراط في مشروع الحداثة الكوني الجديد.
وبالرغم من فشل هذه التجربة الإصلاحية مع دخول الاستعمار فإن القناعة بقيت عند النخب بأهمية الفعل السياسي وبقدرته على التغيير .
وستعود هذه الفكرة وهذه القناعة مع ظهور الحركة الوطنية في بدايات القرن العشرين.وسيكون السياسي والعمل المنظم في الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية نقطة الانطلاق للتصدي للمستعمر ولمسار التحرير من بوتقة الاستعمار.
ومع النضال ضد الاستعمار حملت الحركة الوطنية مشروع بناء الدولة المستقلة ومواصلة المشروع الإصلاحي والانخراط في المشروع الكوني الحداثي الذي انطلق منذ منتصف القرن التاسع عشر .
إلا أن هذه الأفكار والآراء ستجد طريقها نحو الفعل مع دولة الاستقلال التي ستجسد المشروع الحداثي والإيمان العميق بقدرة السياسة على الفعل والتغيير الاجتماعي وستكون السياسات العمومية في جميع الميادين أداة هذا التغيير .
ففي الميدان السياسي ستقوم السياسات العمومية بالخروج من الدولة التقليدية وبناء أسس الدولة الحديثة والتي تقوم على مبادئ الحداثة السياسة . أما على المستوى الاقتصادي فستسعى إلى القطع مع الاقتصاد الكولونيالي وبناء نمط تنمية جديد يعمل إلى إنهاء التشويه الذي فرضته الهيمنة الاستعمارية .أما على المستوى الاجتماعي فقامت الدولة الحديثة ببناء القطاعات والمؤسسات التي ستشكل أساس التعاون والاندماج الاجتماعي وتخرجه من بوتقة العلاقات القبلية والعشائرية.
وقد نجحت هذه السياسات العمومية في تغيير واقع البلاد وتحسين ظروف عيش الناس .وقد
ساهم المصعد الاجتماعي في صعود طبقات جديدة وبصفة خاصة الطبقة الوسطى والتي ستشكل القاعدة الاجتماعية للدولة الجديدة .
هذه النجاحات ستساهم في دعم القناعة والإيمان بأهمية وقدرة السياسي على تغيير الواقع نحو الأفضل في بلادنا وفي الدول النامية بصفة عامة.
وستضاف هذه القناعة إلى الوفاق السائد على المستوى الكوني حول دور السياسة والأحزاب والمنظمات الاجتماعية خاصة في البلدان الديمقراطية على القدرة على الفعل والتغيير .
إلا أن هذه الفكرة الأساسية ستطالها الأزمة التي عرفتها البلدان المتقدمة منذ سنوات ولتعيش بلادنا على وقع أزمة وعجز السياسة على الفعل والتغيير .وفي قراءة أسباب هذه الأزمة يمكن لنا أن نحدد مستويين هامين – المستوى الأول خارجي ويهم حالة الوهن والعجز الذي يعيشه السياسي أمام التطورات والتغييرات الكبرى التي يعرفها العالم .فالثورة التكنولوجية وتراجع حدود الدولة الوطنية مع تنامي العولمة وتنامي المخاطر المناخية والحروب والإرهاب كانت وراء تراجع كبير للفكرة الحداثية حول قدرة الإنسان والسياسة على التغيير وتحسين المجتمعات نحو الأفضل .
أما المستوى الثاني لحالة الوهن والعجز الذي أصاب السياسة فهو داخلي ويهم تراجع قدرة الدولة الوطنية على بناء السياسات العمومية لمحاربة المشاكل الاجتماعية كالبطالة التي تنامت بسرعة كبيرة وخاصة بطالة أصحاب الشهائد .كما عجزت السياسات العمومية عن إيقاف التهميش الذي أصاب الجهات الداخلية وانسداد الآفاق الذي تعيشه.
وقد زادت الأزمات الاقتصادية المتكررة من حدة هذا الوهن والعجز السياسي .
فاللجوء إلى المؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وتدخلها في بعض الأحيان بصفة كبيرة في القرارات والتوجهات الاقتصادية الكبرى أفقد الحكومات الكثير من قدرتها على بناء السياسات العمومية .
تنخرط بلادنا في الأزمة العامة التي تعرفها السياسة والنظرة الحداثية للعمل السياسي القادر على الفعل وتغيير المجتمعات نحو الأفضل .وتشكل هذه الأزمة الأساس العميق للصعوبات التي نعيشها اليوم ونعمل على وقعها .
وهذه الأزمة لا تقتصر على القوى الوسطية الحداثية التي هيمنت على المجال السياسي في بلادنا منذ منتصف القرن التاسع عشر . بل تمتد كذلك إلى القوى السياسية الأخرى اليسارية وقوى الإسلام السياسي .
تنخرط بلادنا في واقع الوهن وعجز السياسة الذي تعيش أغلب بلدان العالم على وقعه . وهذه الأزمات إلى جانب ضرورة الاهتمام بالقضايا الآنية بالنظام الانتخابي والنظام السياسي تتطلب وضع رؤيا جديدة وتصور يعيد للسياسة بريقها ورونقها .