ونذرته المدينة حباّ لازال مشعا إلى حدّ الآن. وعندما تحبّ مدينة لاعبا في كرة القدم فإنها تعطيه من الاعتراف ما يجعله عنوان وجودها. ليونال ميسي في برشلونة هو الآخر جزء من ذاكرة المدينة وأيقونتها الأولى بلا منازع. يوهان كرويف في أمستردام، وسانتياغو بيرنابيو في مدريد، هؤلاء وغيرهم لم يكونوا فقط لاعبين أفذاذا طيلة مسيرتهم فقط، بل كانوا أكثر من ذلك مُلهمي مُدن وصانعي ذاكرة.
اكتشفت حمادي العقربي لاعبا في مباريات الترشح لكأس العالم في الأرجنتين العام 1978. وكان ككل لاعبي وسط الميدان الهجومي آنذاك على كرم كبير، يجاهد بصمت من أجل إيصال كرة مناسبة لمن يستطيع التهديف. لم يكن لاعبا منضبطا بقدر ما كان لاعبا غير متوقع، يكتفي بشوط واحد أو ما يزيد عنه بقليل، ولكنني أشعر دائما أنه حاضر طول المباراة. يغادر الميدان ويبقى أثره بين اللاعبين. كان يلعب فقط من أجل متعة اللعب لا غير، ولهذا عشقته الكرة، فالكرة تحبّ من يعشقها، من يغازلها ومن يراقصها. يحجّ إليه المريدون من كل مكان، فلا مجال للانتماء هنا، المجال للعبادة ومشاهدة حمادي العقربي في الميدان شكل من أشكال العبادة.
هو من فصيلة اللاعبين الذين يمارسون كرة القدم بتعفف كبير، لا يضيف شيئا لإبداعاته الكروية، لا يتكلم ولا يثير من حوله سوى الإعجاب، سوى الافتنان بقدراته العجيبة. ولم يكن لاعبا لناديه فقط، لقد كان لاعبا للمنافسين أيضا. وهذا لا يحدث إلا نادرا في عالم كرة القدم الذي تخترقه مشاعر الحقد والكراهية. لم يكن حمادي العقربي عنوانا للعب الجميل بل كان أيضا عنوانا للحب الجميل. كل حركة يأتيها داخل الميدان لا تخرج أبدا عن اللعب الذي يصنع الفرجة. إنه تجسيد لجمالية كرة القدم ولمبادئها الإنسانية.
غادر حمادي العقربي عالم كرة القدم، وخيّر الاعتكاف في مدينته، لم يدخل رهانات كرة القدم السياسية منها والمالية، ولم يكن ضمن صراعاتها وألاعيبها. نأى بنفسه عن كل ما يجعله الشخصية الأولى في مدينة تدين له بالولاء، ترك مناكفات عالم كرة القدم وترك الاستثمار فيها وبقي ضمن دوائره الضيقة من أصدقائه، يزوره المعجبون في المكان الذي لم يغيره طول حياته، يحجون إليه، يلقون عليه نظرات الاعجاب المفرط وهو يتحمل ذلك الاعجاب دون ممانعة. أشبه بالمتزهد في الحياة وهو الذي بإمكانه أن يعيشها مرات ومرات. ولهذا لم يكن حمادي العقربي لاعبا فقط، واختزاله في مجرّد لاعب فوق العادة لا يكفيه، هناك حمادي اللاعب وهناك حمادي الأشبه بمتصوف أو قدّيس، ثلثا حياته ذاكرة والثلث الآخر ابتسامة خجولة. لم يتقن بالمرّة فنون ابتزاز المنافع كما أتقن فنون مداعبة الكرة.
لقد كان وداع حمادي العقربي درسا في الإنسانية، لم يودّع فيه مريدوه قدراته فقط في لعبة كرة القدم، لقد ودّعوا فيه قيما إنسانية، ودّعوا فيه التواضع والتعفف والتزهد في الحياة، ودّعوا فيه أيقونة المدينة وفتاها الذهبي. لم يشعر الناس في مدينته أنه تعالى عليهم ولم يشعروا أبدا أنه تنكر لهم. تجذّره في المكان أعطى للناس رسالة أنه بالإمكان أن تصل إلى العالمية ولكن ما يُعطي للبشر معنى هو البقاء في المحلية، في ذلك الهامش الذي نشأ فيه وبقي فيه دون تردّد لم يكن حمادي العقربي سوى الابن الوفي لمدينة تبحث دائما عن أيقونتها. وربّما كان الوحيد الذي تقف أمامه تناقضات المدينة وتوتراتها ولو إلى حين.
هل كان حمادي العقربي لاعبا فذا فقط؟ لا أعتقد ذلك ، لقد جعل منه ورعه و زهده طيلة حياته أشبه بقديس.