مقود الحياة السياسية ويفقدون فيها الإجابات الواضحة عن وضع شائك لا يتحكمون في تفاصيله. إنه من السهل الدخول في منطقة الغموض ولكن من الصعب الخروج منها. جزء كبير من الفعل السياسي في تونس يقع ضمن دائرة الغموض، ويبدو أن هذا الغموض قد يُغري الكثيرين لأنه يخرجهم من دوائر المحاسبة.
كانت هناك تجربة فريدة في الخروج من غموض شامل، إنها تجربة الحوار الوطني التي أعطت للفرقاء السياسيين إمكانية أن يتخلصوا من ورطة سياسية كادت تؤدي بالبلد إلى ما يشبه حرب عصابات سياسية. ولكن بالقدر الذي نجح فيه الحوار الوطني في تجاوز غموض أزمة حكم في تلك الفترة أي في سنة 2013 إلا أنه لم يتحول إلى مؤسسة قائمة تتولى إزالة الغموض كلما كان هذا الغموض مؤثرا بشكل سلبي على سير دواليب الدولة.
منذ إصدار دستور 2014 يعيش البلد من غموض إلى أخر، غموض في التعامل مع المستجدات السياسية وغموض شامل في إدارة الدولة وفي إدارة الحكم وغموض في منوال التنمية وفي إرساء اقتصاد قوي يخرج البلد من أزمتها الاقتصادية الخانقة. وقد وصل الغموض إلى حدّ التساؤل عن الذي يحكم بالفعل. هل أن الحزب هو الذي يحكم؟ هل هي الكتلة البرلمانية؟ وماذا عن الرئاسات الثلاث؟ وماذا عن الأيادي الخفية؟ وماذا عن القوى الأجنبية؟ كل هذه الأسئلة لا تزيد المشهد إلا ضبابية ولهذا فإن كلفة الخروج من هذه الضبابية باهظة.
من الواضح أن الحكومة التي بصدد التشكيل حكومة غير متحزبة بما يعني وضع الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان خارج الخدمة الحكومية. عليها في مرحلة أولى المصادقة على منح الثقة ثم ندخل في غموض لا حدود له. ما الذي ستفعله هذه الكتل البرلمانية؟ هل ستنخرط في برامج الحكومة وتساندها إلى حين الخروج من الأزمة؟ أم أنها ستتلكأ في التعامل معها إلى حين تعجيزها والذهاب إلى مأزق آخر؟ إنه الغموض الشامل. لا أحد يعلم أين ستتجه الأمور بعد ذلك.
الغموض ليس سياسيا فحسب، إنه غموض اقتصادي أيضا. وهنا نأتي إلى البرامج التي ستدخل بها الحكومة الجديدة معترك الأزمة ومعترك الاحتجاجات الاجتماعية وتعطيل الإنتاج والطلب الاجتماعي. منوال التنمية الذي لم يتغير منذ الثورة يحتاج إلى رؤية جديدة وإلى قواعد مؤسسة تُدار بها عملية خلق الثروة بأكثر ما يمكن من الجدوى ومن العدالة. ونعتقد أن الاقتصاد الريعي هو اقتصاد ينتعش من غموض القوانين ومن غموض تطبيقها ومن غياب المحاسبة ومن ظهور فاعلين اقتصاديين يتحركون ضمن دائرة الغموض وهو ما جعل الاقتصاد الموازي بأشكاله المختلفة يهيمن على المشهد ويتحكم في مقاليده.
الغموض في تونس مشهد عام وهو لا يمسُّ فقط الشأن السياسي والشأن الاقتصادي، إنه الوصف الذي ينطبق على كل المجالات بلا استثناء، ولهذا نحن في أزمة شاملة. ولكن الخروج من هذا الغموض باهظ الثمن وهو باهظ الثمن لأنه يستوجب تعديلا في النظام السياسي بما يجعل خطوط التماس بين الرئاسات الثلاث واضحة. وباهظ الثمن لأنه يستوجب أيضا تعديلا في النظام الانتخابي بما في ذلك مسألة العتبة ونظام الاقتراع وتمويل الانتخابات وهذه مسائل خلافية شائكة. فهل سيتمكن البرلمان بتوليفته الحالية من المصادقة عليها؟ لا أعتقد ذلك وهو ما سيزيد في منسوب الغموض.
المحكمة الدستورية التي تراوح مكانها منذ سنوات هي أهم إشارة من الفاعلين السياسيين على أنهم راغبون في ترك ممارستهم السياسية ضمن دائرة الغموض، إذ أن الغموض مناسب لهم لأنهم قادرون على تجاوزه بالتوافق المغشوش أي توافق الترضيات.
تبدو كلفة الخروج من الغموض باهظة على السياسي و لكن هذه الكلفة تكون أكثر وقعا على البلد حين يتولى الناس بأنفسهم تحقيق رغبتهم في إزالة الغموض و هنا يصعب كثيرا التخمين في ما سيؤول إليه الوضع.