جائحة الكورونا ومسلسل الفرص المهدورة في الاقتصاد

في كتاب عن تاريخ بلادنا وأسباب الثورة بعنوان «Tunisie :l’économie politique d’une révolution» أو «تونس : الاقتصاد السياسي للثورة» أصدرته

عن دار النشر الأوروبية المعروف de boeche مباشرة اثر الثورة في مارس 2012 دافعت على فرضية أن تاريخ بلادنا هو مسلسل الفرص المهدورة والتي منعت بلادنا بالرغم من طاقاتها من أن تكون ضمن الدول المتقدمة اقتصاديا وضمن الديمقراطيات المستقرة .
وقد أشرت في هذا الكتاب إلى ثلاث فرص مهدورة في تاريخنا الحديث لم تم استغلالها على أحسن وجه لتغيير وجه بلادنا إلى الأفضل . الفرصة الأولى كانت مؤتمر الحزب الحاكم سنة 1971 والذي انتهت أشغاله بفوز الجناح الديمقراطي والذي دافع على ضرورة فتح النظام السياسي والمرور إلى تجربة ديمقراطية بعد فشل تجربة التعاضد في نهاية الستينات.
إلا أن الرئيس بورقيبة أدار ظهره لهذه النتائج وقرر المواصلة في نظام الدولة القوية ونهج الاستبداد الشرقي . وكان ها التوجه نقطة انطلاق لانحراف كبير كان من نتائجه تنظيم مؤتمر جديد للحزب الحاكم سنة 1974 بمدينة المنستير تحت شعار مؤتمر الوضوح والذي أعلن مبدأ الرئاسة مدى الحياة وفتح الباب لتردي الوضع السياسي ولازمة سياسية خانقة كان من نتائجها أحداث جانفي 1978 الدامية .
الفرصة المهدورة الثانية كانت مع الانتخابات التشريعية لسنة 1981 والتي أرادها الكثيرون من رجالات الدولة والحزب الحاكم فرصة لفتح النظام السياسي والمرور إلى مرحلة التعددية والديمقراطية .وبشهادة العديد من الملاحظين شهدت هذه الانتخابات انتصار حزب الاشتراكيين الديمقراطيين المعارض . إلا أن الجناح المتصلب في الحزب رفض هذه النتائج وهزيمته في هذه الانتخابات ليواصل نهج التشدد والاستبداد وقد أنهت هذه الانتخابات المزيفة نهج الانفتاح الذي أخذه الحزب الحاكم اثر عملية قفصة مع الاعتراف بعديد الأحزاب المعارضة ومن ضمنها الحزب الشيوعي وفتح المجال الإعلامي لعديد الصحف المستقلة .
وقد دخلت بلادنا إثر هذه الانتخابات مرحلة جديدة من عدم الاستقرار السياسي مع محاولة تدجين والانقلاب على القيادة الشرعية للاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1985 والأزمة الاقتصادية الخانقة والتي انتهت بإتباع برنامج التعديل الهيكلي وثورة الخبز في جانفي 1984.
الفرصة المهدورة الثالثة كانت مع تغيير 7 نوفمبر 1987 والتي آذنت بنهاية الرئاسة مدى الحياة لزعيم الحركة الوطنية الرئيس الحبيب بورقيبة بعد أن تقدم به العمر واخذ منه الوهن والمرض مأخذا . وكان لبيان السابع نوفمبر 1987 للرئيس الراحل زين العابدين بن علي الكثير من الانعكاسات الايجابية للوعود التي أخذها لتغيير النظام السياسي ودخول مرحلة جديدة من تجربتنا السياسية تتميز بالتعدد والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان .
إلا انه بعد بضع سنوات عادت حليمة لعادتها القديمة ليقع التراجع عن هذه الوعود الديمقراطية والتي كان يمكن لها أن تغير المسار التاريخي لتجربتنا السياسية .
وسيعود النظام السياسي تدريجيا إلى جوهره القوي والتسلطي .كما ستشهد السنوات الأخيرة تطورا كبيرا للفساد مما ساهم في تراجع مشروع النظام السياسي وسقوطه في ثورة 14 جانفي 2011.
لقد ساهمت هذه الفرص المهدورة في بناء قناعة عامة في عجز النظام السياسي على التغيير من الداخل وعدم قدرته على فتح مجال جديد لتجربتنا السياسية.هذا الفشل وهذا العجز كانا وراء بروز التغيير من خارج النظام مع الثورة التي انطلقت شرارتها في ديسمبر 2011 لتنتهي بسقوط النظام في 14 جانفي 2011.
يمكنني اليوم آن أضيف لهذه الفرص فرصة جديدة خاصة من الناحية الاقتصادية وهي أزمة جائحة الكورونا . قبل الإشارة إلى المجالات التي برز فيها عجزنا وفشلنا في اغتنام هذه الفرصة لابد من الإشارة إلى مسالتين هامتين .الأولى تخص الانعكاسات الاقتصادية لهذه الجائحة والتي زادت من تعميق جراحنا لتعرف بلادنا أهم وأخطر أزمة اقتصادية في تاريخنا الحديث حيث سيكون حجم الانكماش الاقتصادي بمستوى -%21.6 حسب الإحصائيات الرسمية .
المسألة الثانية تخص التحولات الكبرى التي عرفها الاقتصاد والسياسات الاقتصادية نتيجة هذه الجائحة .
فقد عرفت هذه الفترة ثورة اقتصادية لا مثيل لها في تاريخنا الحديث فتحت باب كل المحرمات في النظريات والسياسيات الاقتصادية من أجل مجابهة هذه الجائحة وانعكاساتها الاقتصادية الخطيرة .
وقد شملت هذه الثورة الاقتصادية عديد المجالات المهمة في المجال الاقتصادي ومن ضمنها المديونية حيث فتحت إمكانية فسخ كل الدّين أو البعض منه للبلدان النامية لمساعدتها على مجابهة الأزمة بعد أن كانت هذه المسألة من اكبر المعنويات .
نجد كذلك نفس التطور فيما يخص دور الدولة في الاقتصاد حيث سمحت الجائحة بإعادة النظر في هذه المسألة وفسح المجال للدول بالتدخل الكبير لحماية الاقتصاد والمجتمعات من الانهيار .وتراجعت أغلب السياسات الاقتصادية عن نسبة العجز في المالية العمومية والتي حددتها التصورات المحافظة بـ%3 لتسمح للدول بالتدخل بصفة كبيرة في الاقتصاد.
نجد كذلك نفس التطور في ما يخص السياسة النقدية وتدخل البنك المركزي في تمويل الاقتصاد .فقد وقع التراجع عن التوافق السائد في هذا المجال وأعطت أغلب البلدان وخاصة المحافظة منها في المجال النقدي الإمكانية للبنوك المركزية للتدخل المباشر في تمويل الاقتصاد وبصفة خاصة لتمويل ميزانية الدولة .
كما كان لهذه الجائحة انعكاس كبير على مسار العولمة حيث وقع التراجع عن النظرة النيوليبرالية السائدة ليقع التفكير في إعادة بناء سلاسل الإنتاج على مستوى إقليمي .
ولعل الأهم هو أن اغلب البلدان انطلقت في ضبط برامج إنقاذ ودفع اقتصادي جريئة ووفرت لها الإمكانيات الضخمة لا فقط لتجاوز الانكماش الاقتصادي والظرفية الحرجة التي مر بها البلاد بل كذلك للقيام بالتحولات الضرورية والتسريع في بناء نمط نمو عادل ومستديم.
إذن ولئن كانت لجائحة الكورونا انعكاسات اقتصادية كارثية فإنها فتحت فترة جديدة وفرصة للتجديد واخذ المبادرة من أجل تحديد سياسات اقتصادية مغايرة للقيام بالتحول وبناء نمط تنمية جديد.ولقد استفادت اغلب البلدان من هذه الفرصة والنافذة المفتوحة لإعادة النظر في القديم وبناء الجديد على أنقاضه .
والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما مدى استفادة بلادنا من هذه الفرصة وانخراطها في التوجه العالمي للخروج والقطع مع السائد وبناء الجديد.
وإن المتابع للتوجهات الكبرى والسياسات الاقتصادية المتبعة خلال الأشهر الأخيرة لا يمكن له إلا أن يلاحظ انخراطها في الرؤى التقليدية السائدة وغياب الشجاعة الكافية من اجل القطع مع التفكير الاقتصادي التقليدي وفتح باب التجديد والخلق والابتكار في هذا المجال .
ويمكن أن نشير إلى بعض المجالات الاقتصادية الهامة والتي تثبت هذا الاختيار ومواصلتنا في نفس التوجه .لنأخذ مثلا مسألة المديونية وفي الوقت الذي فتحت فيه الدول الكبرى والمؤسسات المالية إمكانية مراجعة المواقف السابقة من هذه المسألة وإمكانية فسخ البعض من الدين الخارجي وعوض أن ينخرط مسؤولونا في هذا التمشي تعنتوا في مواصلة الدفاع على دفع الدين بالرغم من الظروف الصعبة للمالية العمومية .
وقد حاول أغلب الاقتصاديين في بلادنا تحسيس المسؤولين على السياسة المالية والنقدية في بلادنا بضرورة الانخراط في هذا التمشي والاستفادة منه على غرار العديد من البلدان النامية . إلا انه تمت مجابهة هذه الآراء والأفكار بالكثير من التعنت والرفض الشديد من قبل المسؤولين لفترة طويلة . ولم يقع التراجع عن هذا الموقف من قبل مسؤولينا إلا في الأسابيع الأخيرة أي عندما تم غلق هذه النافذة ليعود تعامل المانحين مع المديونية إلى التمشي الكلاسيكي الرافض لكل إمكانيات التراجع عن الدين .
المسألة الثانية التي يمكن أن نشير إليها تخص التأخير الكبير الذي سجلناه في تحديد قانون مالية تعديلي.فإلى حدّ الآن وبالرغم من الهزات الاقتصادية والاجتماعية غير المسبوقة للجائحة فإننا لم نقم بصياغة قانون مالية جديد يحدد السياسات الكبرى لمجابهة الجائحة ويحدّد طرق تمويل آليات التدخل .وفي نفس الوقت قامت اغلب دول العالم بصياغة قوانين مالية تعديلية وفي بعض الحالات قانوني مالية لضبط رؤاها وتصوراتها لمجابهة هذه الجائحة .
وبقيت بلادنا مكتوفة الأيدي والى حدّ اليوم لم نقم بصياغة قانون مالية بدعوى عدم استقرار الوضع الاقتصادي . إلا أن هذا التأخير ستكون له انعكاسات سلبية باعتبار أننا لن نتمكن من الاستفادة من الظرف الذي فتحته الجائحة في قواعد ضبط السياسة المالية .
مسألة ثالثة فتحتها الجائحة ولم نستفد منها وتخص السياسة النقدية والإمكانية التي أتيحت للبنوك المركزية لتمويل ميزانية الدولة بطريقة مباشرة .
وبالرغم من التطور الكبير الذي عرفته السياسات الاقتصادية وهامش الحرية الذي فتحته فإننا واصلنا دفاعنا عن المواقف التقليدية المحافظة حتى لما عرض البرلمان على البنك المركزي والحكومة إمكانية إعطائهما هذه الإمكانية رفضاها .
يمكن كذلك أن نشير إلى مسألة هامة وتخص برامج الإنقاذ والتنشيط الاقتصادي .ففي حين انخرطت اغلب البلدان وحتى النامية منها في مسار تحديد برامج جريئة وطموحة وتوفير الإمكانيات لها بقيت بلادنا محافظة على موقف محافظ .فالي حدّ اليوم لم نحدد برنامج إنقاذ واضح المعالم أو برامج تنشيط اقتصادية جريئة .
يمكن لنا كذلك أن نشير إلى مسألة أخيرة تخص التحولات الكبيرة التي يعيشها مسار العولمة والاتجاهات الجديدة التي بدأت تشقه والداعية إلى إعادة تنظم سلاسل الإنتاج (les chaines de valeur) على مستوى إقليمي .
كان يمكن لنا الاستفادة من هذا التطور الهام من خلال وضع فريق عمل على أعلى مستوى لتحديد الإمكانيات المتاحة لبلادنا في هذا المجال وتطويرها على مستوى السياسات الصناعية . إلا أن شيئا من هذا لم يحصل .
لقد كانت لأزمة الكورونا انعكاسات كارثية على اقتصادنا .إلا أنها في نفس الوقت فتحت إمكانات كبيرة على مستوى مكن لنا من الاستفادة منها في إعادة بناء نمط التنمية في بلادنا . إلا انه وفي نفس الوقت الذي أغلقنا فيه الحدود أمام الجائحة أغلقنا كذلك على الثورة الاقتصادية التي اشتعلت رحاها في اغلب بلدان العالم . وبقيت بلادنا من الدول القلائل في العالم المحافظة على السياسات التقليدية لتضاف هذه الأزمة إلى جملة الفرص المهدورة التي يزخر بها تاريخنا .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115