قهوة الأحد: في أسباب الأزمة السياسية

لا حديث منذ أشهر إلا عن الأزمة السياسية الخانقة التي تهز بلادنا وحالة الإحباط والخوف التي خلقتها .

ولعل من المظاهر المباشرة لهذه الأزمة حالة عدم الاستقرار الحكومي التي نعرفها منذ الانتخابات الأخيرة في 2019. فقد سقطت حكومة السيد الحبيب الجملي ولم تتمكن من نيل ثقة البرلمان . كما أن عمر حكومة السيد الياس الفخفاخ لم يتجاوز بعض الأشهر القصيرة بعد ظهور قضية تضارب المصالح ويحاول السيد هشام المشيشي تكوين حكومة جديدة وسط تضارب الرؤى بدعمها من عدمه من طرف الأحزاب السياسية والكتل البرلمانية .
هذه الأزمة الحكومية وعدم الاستقرار الذي ميز بلادنا في الأشهر الأخيرة مؤشر هام على هذه الأزمة السياسية.
ويمكن أن نشير إلى مؤشرات أخرى تؤكد على عمق هذه الأزمة السياسية .فالمشد البرلماني يعيش نفس الأزمة والتشرذم لتهيمن الصراعات والخلافات وحتى التخوين بين مختلف أعضائها ولتبقى القضايا الحقيقية والتحديات الاقتصادية والاجتماعية بعيدة على اهتماماته .
كما أن المشهد الحزبي يعيش كذلك على وقائع هذه الأزمة . فالأحزاب السياسية أصابها الوهن وأصبحت تعاني من غياب الثقة وانصراف الناس عنها .
فقد فقدت الأحزاب في مدة قصيرة قدرتها على التعبئة وحمل هموم الناس وتحويلها إلى مشاريع وبرامج سياسية وتصورات كبرى .
هذه بعض المظاهر والمؤشرات الكبرى للأزمة السياسية الخانقة التي تمر بها بلادنا والتي تهيمن بكل ظلالها على مسار التحول الديمقراطي .
وقد كانت هذه الأزمة مجال اهتمام الناشطين السياسيين والمحللين والأحزاب السياسية. وقد تم التركيز في اغلب هذه لتحاليل والقراءات على مسألتين أساسيتين - المسألة الأولى هي النظام الانتخابي حيث أكد العديد على انه أصبح أحد أهم أوجه الوهن والعجز في نظامنا السياسي .ولئن يتفق الجميع على أهمية هذا النظام الذي ساهم في الفترة التأسيسية في تشريك اغلب العائلات الفكرية والقوى السياسية في بناء الأسس للجمهورية الثانية فانه أصبح اليوم احد نقاط ضعف النظام الديمقراطي .فهذه النظام ليس قادرا على إنتاج أغلبية حكم لتعيش كل المؤسسات والهياكل المنتخبة من خلال ذلك على وقع عدم الاستقرار والتمييز بضعف جنيني يجعلها قادرة على إنجاز الوعود والبرامج الانتخابية التي قطعتها على أنفسها أثناء الحملات الانتخابية .
وقد بدأ الحوار والنقاش حول ضرورة تغيير هذا النظام الانتخابي بنظام أغلبي لإعطائنا مشهدا سياسيا أكثر متانة وصلابة وقادرا على إدارة النظام السياسي . إلا انه وبالرغم من الإجماع الحاصل على ضرورة تغيير النظام الانتخابي فإنه لم يحصل أي تقدم ملموس في هذا المجال .وقد بقيت المحاولة الوحيدة في هذا المجال دون تطبيق نظرا لدوافعها السياسية ومحاولتها إقصاء بعض الخصوم السياسيين.

أما الجانب الثاني لهذه الأزمة والذي يؤكد عليه الناشطون السياسيون والمحللون وبعض الأحزاب السياسية فيهم النظام السياسي الهجين الذي أتى به دستور 2014 والذي حاولنا من خلاله الخروج من سلبيات النظام الرئاسي . وقد أثار موضوع اختيار النظام السياسي في خضم مسار صياغة دستور الجمهورية الثانية الكثير من النقاشات والصراعات فكان هاجس الكثير من الناشطين السياسيين الخروج من النظام الرئاسي والذي تحول إلى نظام استبدادي .
وفي نفس الوقت كانت هناك تخوفات كبرى من البديل للنظام الرئاسي والذي طرحته بعض القوى السياسية. فمواكبتنا للتجربة السياسية لبعض البلدان القريبة وبصفة خاصة للنظام البرلماني أكدت مخاوفنا من جانب عدم الاستقرار يحمله هذا النظام .
هذه النقاشات والاختلافات وحتى الصراعات ولدت هذا النظام السياسي الهجين الذي أتى به دستور 2014 والذي حاول بناء توازنات بين مختلف مؤسسات النظام السياسي كرئاسة الجمهورية والحكومة والبرلمان .
وقد أثبتت التجربة القصيرة الصعوبات التي أنتجها هذا النظام السياسي مما دفع العديدين المطالبة بتغييره والعودة إلى نظام رئاسي يكون توزيع المسؤوليات فيه واضحا وجليا .
إلا أن هذه المقترحات لتغيير النظام السياسي تثير الكثير من النقد وحتى الرفض عند العديد من القوى والعائلات السياسية.
هكذا يرى أغلب المحللين والناشطين السياسيين إن أسباب الأزمة السياسية التي تعيشها بلادنا تكمن في النظام الانتخابي والنظام السياسي . ويعتقد هؤلاء جازمين أن إصلاح هذه الآليات والمؤسسات قادر على إيصالنا إلى شاطئ النجاة وبالتالي الخروج من الأزمة السياسية الخانقة التي تعرفها بلادنا .
وعلى أهمية هذه الأسباب والدور الذي يلعبه النظام الانتخابي والنظام السياسي فإن الأزمة التي نعيشها اليوم هي أعمق وتمس الأسباب والأسس الهيكلية لنظامنا السياسي . إن الجذور العميقة لهذه الأزمة السياسية تكمن في غياب رؤيا سياسية واضحة المعالم ومشروع سياسي قادر على بناء حلم جديد يجند من حوله الفاعلين السياسيين والاجتماعيين .
وهذه الأزمة لا تقتصر على قوة سياسية واحدة بل تشترك فيها اغلب القوى السياسية الوطنية في بلادنا وكل العائلات الفكرية والإيديولوجية .
فالعائلة الوسطية والحداثية بكل فصائلها تعيش هذه الأزمة وهي غير قادرة على بناء مشروع جديد للتحديث خارج برنامج الدولة القوية والتحديث الاستبدادي .
ولئن واصل مختلف ورثاء هذه العائلة التواجد اليوم وحتى بعد الأدوار الأولى في المجال السياسي فلم يكن ذلك إلا عبر معاداة الخطر الداهم للإسلام السياسي والذي شكل العدو التاريخي اللدود لتيارات الحداثة العربية .
ولم تتمكن هذه القوى إلى حدّ الآن من بناء برنامج ورؤيا بديلة تفصل مهمة التحديث عن أهمية الدولة واستبدادها لمواجهة القوى المحافظة.
ولا تقتصر هذه الأزمة على القوى الحداثية بل تشكل كذلك القوى السياسية الأخرى ومن ضمنها قوى الإسلام السياسي . وقد عانت هذه القوى طيلة تاريخها من هيمنة الرؤى الإخوانية والمحافظة والتي اعتبرت أن البديل لازمة المشروع الحداثي تكمن في العودة إلى مشروع العصر الذهبي للأمة الإسلامية ومشروع الخلافة .
إلا أن تجربة الإسلام السياسي أثبتت صعوبة إن لم نقل انعدام الوصول وتحقيق هذا المشروع . فكانت المراجعات والقراءات النقدية والتي دفعت بأغلب حركات الإسلام السياسي إلى الابتعاد عن هذا المشروع والانخراط في التجربة الديمقراطية .
إلا أن هذه القوى وبالرغم من هذه المراجعات لم تكن قادرة على بناء مشروع جديد وإعطاء محتوى جديد لدولة ولمشروع ما بعد الخلافة .
نفس الملاحظات يمكن لنا – كذلك - أن نسوقها للمشروع اليساري والذي عمل على بناء بديل لتجارب التحديث الاستبدادي والإسلام السياسي . وقد وجد هذا المشروع في تجربة البناء الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي وبلدان أوروبا الشرقية مصدرا للإلهام والتفكير . إلا أن فشل هذه التجارب وانهيار المنظومة الاشتراكية جعل المشروع اليساري يتيما وغير قادر على إيجاد مصادر الهام جديدة . فكان ارتماؤه في الحركات المناهضة للعولمة الليبرالية . ولئن ساهم هذا الانتماء الجديد في نقد مشرع العولمة النيوليبرالية فانه لم يمكن القوى اليسارية من بناء مشروع سياسي ورؤيا جديدة .
تعيش بلادنا اليوم على وقع أزمة سياسية خانقة . ولئن ساهم النظام السياسي والنظام الانتخابي في تعميق حدة هذه الأزمة فإن أسبابها الهيكلية تكمن في عجز القوى الفكرية والسياسية التقليدية عن بناء الرؤى والتصورات الكبرى للخروج من هذه الأزمة وبناء تجربة تاريخية جديدة في بلادنا .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115