في الأمر قد تكون فرضا لتعليمات. الهجرة السرية الآن هي إحدى علامات النجاح الاجتماعي، يقع الاحتفاء بها عائليا بعد أن كانت وصما لعطب في المصعد الاجتماعي. هذا تحوّل مثير في الظاهرة عندما تنتقل من مخاطرة إلى عنوان نجاح. تصبح هنا المخاطرة فعلا يقع تثمينه لأنه مغامرة تكشف عن قدرة الفرد على تجاوز معوقات صعوده الاجتماعي.
عندما بدأت الظاهرة في البروز مع بدايات تسعينيات القرن الماضي كانت كل الأنظار متجهة إلى مسألتين الأولى هي غلق الحدود الأوروبية أمام الراغبين في الهجرة أما الثانية فكانت قراءة للدوافع التي تجعل الشاب مغامرا بحياته من أجل الوصول إلى الضفة الشمالية من المتوسط. والدوافع كانت بالأساس اقتصادية اجتماعية وهي لا تزال كذلك. ولكن زاوية النظر للمسألة تغيرت في الأثناء فعلاوة على الظروف الدافعة مع انحسار الفرص أمام الشباب وضعف إدماجهم في الدورة الاقتصادية برزت مسالة كيفية بناء هذا الشاب لمشروع الهجرة لديه على غير الصيغ القانونية والنظامية.
لقد انتقلنا من هجرة منظومة إلى هجرة شبكة. ولكلا الهجرتين منطقها الخاص وعلاماتها المميزة وظروف تحقيقها. هجرة المنظومة هي هجرة دول يقع التفاوض حولها وتقاس بمنطق الربح والخسارة ولهذا برز مفهوم الهجرة الانتقائية التي تدافع عنها جول الاتحاد الأوروبي، وهي هجرة أدمغة وهجرة عمالة مختصة تستفيد منها اقتصاديات هذه الدول وتملأ بها الفراغ الديموغرافي وفراغ المؤسسات من أبسطها إلى أعقدها. وقد فهمت ألمانيا ذلك عندما قررت قبول أكثر من مليون لاجئ سوري من أجل إعادة إدماجهم في المنظومة الاقتصادية والاستفادة من قدراتهم المختلفة، والأكيد ان ألمانيا ستقف عند فوائد قرارها.
هجرة الشبكة مختلفة عن ذلك، إذ لا تتحكم الدول في منسوب الظاهرة ولا في نوعيتها ولا في من يقوم بها وفي من يتولى تنظيمها. هي ليست هجرة انتقائية كما تريد ذلك ولهذا هي مزعجة. هجرة الشبكة هي هجرة الفرد الذي يقيس نجاحه بقدرته على إيجاد حلول لما يمكن أن يعتبره فشلا في حياته. وهي أيضا اختبار للشاب أمام صعوبة وضعه واختبار له أمام أقرانه وهو يقارن نفسه بهم. هجرة الشبكة هي تحويل للمشكل الاجتماعي إلى تجاوز لإخفاق شخصي وهنا يطهر عمق المغامرة. ولذلك لا تهم الدوافع الاقتصادية والاجتماعية على أهميتها بقدر ما يهم علاقة الشاب بذاته وبمسؤوليته الفردية على إنجاح مشروعه.
وفي هذا السياق تتراجع الدوافع الماكرو سوسيولوجية لتترك مكانها للسرديات الصغرى التي يبنيها الشاب وهو يفكر في مشروعه للهجرة. وتتحول الأسئلة من أسئلة عن الوضع الاقتصادي وعن البطالة والتهميش إلى أسئلة من نوع آخر تتعلق باختبار الذات والقدرة على التحدي والنجاح في انتهاك القوانين والأعراف الرسمية. ويُحاسب الشاب لا على اختياره الهجرة السرية بل يُحاسب على مدى تمكّنه من إدراك ذلك بأخف الأضرار. وهذا ما يجعل نفس الشاب يعيد تجربة الهجرة السرية لو أخفق في أحدها. ولضمان نجاح التجربة يُدمج الشاب عائلته في ذلك تنظيما ومساندة مادية ومعنوية. ومع هذا لا تتردد العائلة في الاحتفاء بنجاح التجربة، بل أنها تشاركه التجربة وهي ظاهرة بدأت في البروز مؤخرا.
لم تعد الهجرة السرية إثما اجتماعيا ولا وصما لفشل بل هي الآن عنوان نجاح وعنوان القدرة على تحقيق الذات ضمن أفق متعدّد الاختبارات. لا يهمّ الشاب الاتفاقيات الدولية في مجال الهجرة ولا يهمّه شكل المخاطرة، ما يهمّه هو أن يكون في مستوى الاختبار الذي مرّ به أقرانه فيما مضى ويمكن أن يمرّ به أخرون بعدهُ.