أىّ مستقبل للأحزاب في زمن الرقمنة ؟

خلافا للعديد من المفاهيم الاجتماعية المٌتّسمة بالتشعّب والتعدّد، فإنّ تعريف "الأحزاب السياسية" ظل مستقرا من حيث كونها اتحاد بين مجموعة

من الأفراد تجمعهم رؤي وبرامج مجتمعية متجانسة في الحد الأدنى، تشتغل أساسا على البلوغ الى السلطة وممارستها ...

فإن تعود نشأة الأحزاب المعاصرة مقترنة تاريخيا "بالمركز" (في استعارة لنظرية "المركز والأطراف" للمفكر الاقتصادى الكبير سمير أمين) ضمن سيرورة تشكّل "الكتل البرلمانية" في منتصف القرن الثامن عشر ببريطانيا وأيضا بارتباط وثيق بالحركة الأممية "الاشتراكية العلمية" النزعة (من الأممية البروليتارية الأولى إلى الأممية الرابعة التروتسكية)، فإن منتصف الثانى من القرن الماضى يٌعدّ دون أدنى شك "المرحلة الفردوسية" للأحزاب حيث عرفت هذه الحقبة اعترافا واسعا بمبدأ "التعددية الحزبية" داخل العديد من البرلمانات ممّا أسهم الى بروز كمّ كبيرا من الأحزاب الفاعلة داخل دول "الأطراف" على غرار "جبهة القوى الاشتراكية" الجزائرية و"الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" المغربي، و"حركة الديمقراطيين الاشتراكيين" في تونس الخ .
طفرة حزبية غير مسبوقة عزّزت دور الأحزاب في رسم السياسات العامة للدول التي تنتمى اليها، كما أسهمت في الانتقال التدريجى للكيانات الحزبية إلى مركز من مراكز الثقل المؤثرة في العلاقات الدولية عبر تاسيس شبكات حزبية دولية قوية على غرار "منظمة الدولية الاشتراكية" ذات التوجه الديمقراطى الاجتماعى والتي تأسست سنة 1951 بعضوية تناهز قرابة 162 حزب ومنظمة من القارات الخمس.

إلا أنه منذ "التسونامي الرقمي" الذي لم يستثن أحدا في طريقه بما فيها الأحزاب ذاتها، دفع العديد منها عنوة واضطرارا - حفاظا على الحد الأدنى من وجودها - الى استخدام مكثف وفوضوي في غالب الأحيان للأدوات الرقمية المتاحة من مواقع اجتماعية ومنصات رقمية عند تنفيذ استراتيجياتها التواصلية والاتصالية، محاولات قد تعيد البريق لبعض الأحزاب غير أنها لن تجعلها قادرة في الأفق القريب على الصمود في وجه التيار الرقمى الجارف ...
فالانتخاب الفايسبوكي للرئيس "ترامب" عبر مؤسسة "كامبريدج اناليتيكا" سنة 2016 ومن قبله "أوباما" بشكل مقنع سنة 2008 ، و"استفتاء "البركسيت" Référendum de Brexit المٌوجّه فايسبوكيا أيضا والذي بموجبه انسحبت بريطانيا من الاتحاد الاوروبى، والانتخابات الأخيرة ببلادنا التي انتهت بتتويج رئيسا للجمهورية دون خلفية حزبية وبأصوات تٌعدّ بالملايين قادمة من الفضاء الافتراضى ، والتلاعب الفايسبوكى التي شهدته انتخاباتنا التشريعية أو ما اصطلح على تسميته "بعملية قرطاج" Opération Carthage وغيرها من الخروقات الفايسبوكية التي شابت العديد من الاستحقاقات الانتخابية الكبرى في العالم تقيم الدليل بأن البوصلة الانتخابية لم تعد تديرها حملات حزبية ميدانية ضخمة تٌشرف عليها "هيئات دستورية مستقلة" أو "منظمات غير حكومية" متخصصة في الشأن الانتخابي بل أمست بيد "غرف عمليات" تشتغل عن بٌعد تتشكّل من مجموعة من التطبيقات الذكية، نواتها الصلبة "عمالقة الواب" و"المؤسسات الرقمية الناشئة"، تستأثر باهتمام جيل "الواب 2.0" جيل التسعينات بالتحديد.. نجحت بتقديم عرض "مجتمعى افتراضي" جديد بمحامل تسويقية مستحدثة ومٌغرية، عنوانه الكبير المقتبس بتصرّف من الأدبيات الماركسية الكلاسيكية : " الواب أفيون الشعوب "...

فالأحزاب السياسية اليوم عليها أن تعي جيدا أنها في مواجهة "مواطن" من نوع جديد، رقمي حتى النخاع.. سريع الانقياد والتأثير في نفس الوقت.. تتغير مواقفه ومواقعه بسرعة وفق المزاج العام للحظة الفايسبوكية أو الانستغرامية أو التويترية السائدة.. لا يعنيه البتة الالتزام السياسى بمفاهيمه الحزبية التقليدية بقدر انخراطه في مجتمعات افتراضية تستجيب بالكامل لاحتياجاته السوسيو-نفسية المختلفة جذريا عن مواليد ستينات وسبعينات القرن الماضي.. مجتمعات افتراضية تمنحه الفرصة للتأثير والتأثّر بمنأى عن كل هندسة حزبية عمودية، ستالينية الاشتغال والتداول من "مكتب سياسي" و"لجنة مركزية" وغيرهما من التسميات المؤسساتية الحزبية المتكلسة والجنيسة.. طموحاته مٌعولمة تتجاوز الأفق الوطنى بكثير.. جيل حامل لهوية مركّبة ومٌلغّزة، غارق في فردانية "النات" السحيقة التي لا تعترف مطلقا بنواميس "العقد الاجتماعي" "لجان جاك روسو".. يتحرك ضمن قاموس خال من رصاص Lexique sans plomb "القيادى" و"الأمين العام" و"الزعيم الملهم" مستبدلة إياه بلائحة من المشاهير والنجوم القادمة من عوالم مختلفة.. قادر بمجرد تنزيل فيديو مثير أو بنقرة واحدة على قلب الموازين الانتخابية بالكامل.. لا يعترف إطلاقا بالهندسة المؤسساتية والمجتمعية الراهنة.. فالاخ "غوغل" والاخت "فايسبوك" أمست عائلته الجديدة التي لا يمكن ان يتخلى عنها لحظة.. يتصرّف في الان ذاته "كمٌشرّع" بتدويناته وتعليقاتة وكسلطة "تنفيذية وقضائية" معا عبر اطلاق العنان لحساباته الوهمية وصفحاته المموّلة وكتائبه الفايسبوكية المأجورة.. لا مكان عنده للمتاريس العازلة بين العمل الجمعياتى والحزبي، ولا فواصل بين المباح والمحظور في عالم تحكمه قوانين "نظرية الفوضى" la théorie du chaos ومفاهيم المٌركّب واللايقين les concepts de complexité "لادغار موران".. دستوره المٌقدّس يٌحيلك مباشرة الى أشهر المواقع المتخصصة في تقنيات الاختراق والقرصنة.. معدلات الذكاء ومقاييس التألق والنجاح لديه لا تقاس وفق معيارية الشهادة الجامعية أو المكانة الاجتماعية بل بالقدرة على اختراق المؤسسات المالية والسيادية أو على استقطاب اكبر عدد من المعجبين والمعجبات .. سرديته اليومية مستوحاة من أبطال عالم الهاكرز والرّاب.. من بين الشخصيات النموذجية التي يقتدى بها مؤسس الفايسبوك "مارك زوغربيرغ" والهاكر الجزائرى الشهير "حمزة بن دلاج" ...
حذار نحن حيال صفحة جديدة من التاريخ السياسى تٌخطّ أسطرها وتفاصيلها المٌملّة بقلم سيّال حبره السرّى مودع بأحدى المختبرات الرقمية "لوادى السليكون "..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115