وفي غفلة من الجميع عمدت ادارة فايسبوك في الاونة الأخيرة الى تحديث آليات عملها في العمق عبر إنشاء " مجلس للحكماء" يضم أكثر من عشرين شخصية قادمة من روافد جغرافية ومهنية وسياسية متنوعة وذلك بغاية تحقيق هدف مزدوج منه ما هو معلن ومنه ما هو خفي :
- في خانة المعلن، العمل على الحدّ من الأضرار الجسيمة التي لحقت صورتها كمنصة إطلاق للأخبار الزائفة وكقاعدة خلفية للقيام بعمليات إنزال رقمى لسيل يكاد لا ينتهى من الحسابات الوهمية ومن رسائل الكراهية والتطرف.
- في خانة الخفي، وضع الأسس الأولى "لجمهورية فايسبوك شمولية" في طريقها نحو التشكّل ... بحكم تأثيرها السيكولوجى الخرافي لأكثر من 2,5 مليار شخص - دون احتساب الواتساب والانستغرام - على امتداد أكثر من عقد من الزمن، وقدرتها الخوارزمية الرهيبة في توجيه نتائج كبريات الاستحقاقات الانتخابية في العالم بدءا بفضيحة "كامبريدج اناليتيكا" التي مكنت دونالد ترامب من دخول "البيت الأبيض" سنة 2016 وصولا الى "البركسيت" والبقية تأتي، فانه بات من البديهى أن تطمح فايسبوك في حكم العالم بأسره بآليات مؤسساتية ونقدية (عملة ليبرا) مستحدثة من شأنها ان كتب لها النجاح من إرساء "نظام عالمى جديد" تنتقل بموجبه الدول - الفاعل الرئيسى في العلاقات الدولية الراهنة - مهما كانت قوتها تدريجيا الى هوامش تدور في فلك عمالقة الواب من فايسبوك وأخواتها ...
سنحاول في هذه الدراسة البحثية - المبوّبة في قسمين - بأدوات التحليل والاستشراف الكشف عن المشروع التوسعى الخفي لمؤسسة الفايسبوك التي بعد ان حققت الزعامة الرقمية دون منازع تبحث اليوم عن اختطاف الريادة السياسية على العالم كلّفها ذلك ما كلّفها...
1 - تركيبة "مجلس الحكماء":
في مواجهة الانتقادات الشديدة التي تعرضت إليها فايسبوك على خلفية فضيحة "كامبريدج اناليتيكا" تمت احالة عملية تعديل المضامين المتداولة على الموقع التي تحوم حولها شبهة تمجيد الارهاب وبث خطاب الكراهية والعنف الى مجموعة من المتخصصين في التعديل modérateurs يتم انتدابهم للغرض والجزء الأكبر تتكفل به روبوات الذكاء الاصطناعي التي تشتغل وفق تقنية التدرب العميق Deep Learning .
الا انه وفي خطوة مفاجئة أعلنت مؤخرا شركة "فايسبوك" عن تشكيل "مجلس حكماء" مختص في الحسم في المضامين الخلافية على موقع التواصل الاجتماعى، وفي تعليقه حول الموضوع شدّد مدير السياسات العامة لدى فايسبوك "برنت هاريس" : " بأنها بداية تغيير جوهري في الطريقة التي ستتخذ فيها بعض القرارات حول المضمون الأصعب على فيسبوك ". لكن كيف ؟
- على مستوى الأعضاء بصفاتهم
يضم المجلس قرابة العشرين شخصية مناصفة بين رجال ونساء في انتظار ان يُرفّع في المستقبل عددهم إلى 40 عضوا، يتمتعون وفق الموقع الرسمى لفايسبوك " بخبرة مهمة في عدة مجالات أساسية لاسيما في حرية التعبير والحقوق الرقمية والحرية الدينية واعتدال المضمون وحقوق المؤلف الرقمية أو حتى السلامة الالكترونية والرقابة على الانترنت والشفافية ".
من بين ابرز النساء المنضويات بالمجلس رئيسة الوزراء الدنماركية السابقة "هيلي ثورنينغ شميت" والناشطة السياسية اليمنية "توكل كرمان" الحائزة على جائزة نوبل للسلام ، الحاملة للجنسية التركية والمقيمة بتركيا.
ومن الرجال ، نذكر في المقدمة "أندراس ساجو" القاضي المجري السابق ونائب رئيس "المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان" و"آلان راسبريدجر" رئيس التحرير السابق في صحيفة «ذي غارديان» البريطانية الذي ساهم في إضفاء بعد عالمي للمجموعة بعد نشره تسريبات "ادوارد سنودن" المدوية ...
- على مستوى التوزيع الجيوسياسى للمجلس
أكثر من ثلثى أعضاء المجلس ينتمون إلى الفضاء الانقلوساكسونى والاوروبى والبقية موزعين بين باقي الفضاءات الجغرافية ( 5 أعضاء عن أمريكا الشمالية 4 أعضاء عن أوروبا 3 أعضاء عن منطقة اسيا-المحيط الهادى والبقية المتبقية موزعة بالتساوى بين أمريكا اللاتينية وأفريقيا تحت الصحراء وشمال أفريقيا وجنوب اسيا ) مما يؤشر بوضوح بأن مركز القرار داخل المجلس سيكون لا محالة بيد اللوبي الانغلوساكسوني lobby anglo-saxon بمختلف فضاءته وامتداداته...
- على مستوى الفسيفساء الأيديولوجية والسياسية للمجلس
لمن يعرف جيدا شخصية "مارك زوغربيرغ" المراوغة والبراغماتية يمكنه أن يتوقع بانه سيراهن على عامل التنوع الإيديولوجي والسياسى القائم على المزج بين المتناقضات في تعيينه لأعضاء المجلس.
بالفعل تتشكل القاعدة التحتية الصلبة "لمجلس الحكماء" من شخصيات حقوقية وضلعيه من وجوه ذات مرجعية يسارية وأخرى محافظة وإخوانية على غرار شخصية "متوكل كرمان" عضو مجلس شورى " التجمع اليمنى للإصلاح" والمدافعة المستميتة على النسخة الإخوانية الجديدة التي يتزعمها الرئيس التركى "اردوغان" ...
2 - اختصاصات "مجلس الحكماء"
بين المعلن والخفي:
في مستوى التصريحات الرسمية وتلك الموثقة في الموقع الرسمى لفايسبوك يتم التسويق ليلا نهارا بان فكرة احداث هذا المجلس جاءت بهدف أخلقة الفضاء الفايسبوكى لا غير وذلك من خلال انشاء نوع من «محكمة عليا» تكون لها الكلمة الفصل في الابقاء عن المضامين المثيرة للجدل أو حذفها عن الفيسبوك والانستغرام...
بالمقابل، فاذا كان الاعلان عن "التوبة الرقمية الفايسبوكية" أمرا جيدا فانها لم تجد لدى المختصين في شؤون السوشيال ميديا والفايسبوك بشكل خاص أدنى قدر من المصداقية لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية تتعلق بالمواقف الأخيرة التي اتخذها المؤسس والحاكم بأمره "مارك زوغربيرك".
فالنموذج الاقتصادي لفايسبوك de facebook le modèle économique يعتمد بشكل أساسى على عائدات مالية متأتية من المستشهرين وأصحاب شركات الاعلانات مقابل بيعها للمعطيات العامة والشخصية لمستخدمي الشبكة، دونها يستحيل علي الشركة - خاصة في ظل غياب مصادر مالية بديلة معتبرة - أن تستغنى عن هذا المنجم المعلوماتي الهائل المتاتى مباشرة من الأخبار الزائفة والمجموعات والصفحات المشبوهة...
كما أن اصرار "مارك زوغربيرغ" بعدم حذف تصريحات "ترامب" الأخيرة الداعية إلى العنف مثلما فعلت "تويتر" يٌفرغ عملية الأخلقة المنشودة من مضامينها ليعيدنا مجددا إلى مربّع فضيحة "كامبريدج اناليتيكا"...
إذا ما الغرض الحقيقي من احداث مجلس للحكماء؟
مؤسسة شبيهة إلى حد التماهى" بمجلس الأمن الدولى" الذراع التنفيذى للمنتظم الاممى.. تتمتع بصلاحيات تقريرية واسعة .. يعين أعضاءها لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد بطريقة يكتنفها الكثير من اللبس والغموض.. تسمح وتمنع ما تشاء من المحتويات المتداولة كشرطى دولى مكلف بمهام رقابية رقمية كونية.. يٌحرّك خيوطها " مؤسس الفايسبوك" وايقونته التاريخية "مارك زوكربيرغ".
3 - التداعيات المحتملة على جمهوريتنا الفايسبوكية الناشئة 1.0:
من المتوقع أننا سنشهد في المدى العاجل مرحلة من المدّ والجزر في العلاقة بين "جمهوريتنا الفايسبوكية الناشئة" و"الجمهورية الأم" المتمركزة " بوادى السيلكون " تتمحور حول مدى مشروعية غلق هذا الحساب او تلك الصفحة والتي ستنتهى سريعا بتأقلم "فاعلينا المحليين" مع السياسات الفايسبوكية العامة مهما كانت درجة اجحافها، تارة بالتظاهر باحترامها وتارة أخرى بمحاولة الاستفادة من ثغراتها واللعب على متناقضاتها الداخلية...
فالصفحات المموّلة والمجموعات الفايسبوكية المٌدجّنة سياسيا ستظل تشتغل لكن بوتيرة أقل إلى حد اشعار آخر، في حين ان الدعاية السياسية والانتخابية عبر "المؤثرين الانستغراميين" و"تبادل الرسائل الوتسابية" ستعرف انفجار غير مسبوق في السجالات السياسوية والمواعيد الانتخابية المقبلة.