لا إنماء ولا تعلّم ولا تغيير. الكلّ اليوم يرتعدون، خائفون، مهمومون. يخشى يوم الدين... يجب أن نقتلع من القلوب هذا الخوف الشديد. يجب أن لا نخاف السماء ولا الدنيا ولا الآخرة. ما كانت السماء بظلّامة للعباد. تبتغي إرهاب الناس وقضّ مضاجعهم. السماء غفورة، رحيمة. ما كانت الدنيا مكرا وخداعا ولا هي ظلمات وسوء. خلافا لما يقولون، الحياة الدنيا حلوة، جميلة. هي جنّات الفردوس فيها ضياء وبهاء ونور. أمّا الآخرة فلن تكون إلا خيرا مقضيّا...
القرآن، كما هو الحال في الكتب الأخرى، مغازة كبرى. فيها سلع كثيرة وبضائع متنوّعة، وفيرة. "ما فرطنا في الكتاب من شيء". كلّ قارئ يلقى فيه ما يشتهي وما يريد. في الكتاب، جاء في الوعد وفي الوعيد سورا وآيات عديدة. بعضها يؤكّد أنّ السماء غفورة، رحيمة وبعضها يؤكّد أنّ عذاب السماء شديد. في ما أرى وهذا هو الأمر العجيب، فالكثير من الأيمّة عندنا، في خطبهم، يفضّلون الترهيب وتراهم دوما يؤكدون على ما جاء في القرآن من عذاب ومن نار جحيم. بما أتوا من تأكيد، أخاف رجال الدين الناس، أربكوا عيشهم. ضيّقوا الخناق. حرّموا كلّ نعيم. أعرض الناس عن الدنيا. غرقوا في غياهب الدين...
يجب أن ننتهي من خطب الترهيب هذه والوعيد. يجب أن نعيد الأمل للقلوب. يجب أن تصبح السور والآيات جميعا بردا وسلاما... ما جاء في الآيات والسور من ترغيب ودفع للحياة، نجلّه، نرفع من شأنه، نبقيه وما جاء في الآيات والسور من ترهيب ووعيد، نؤوّله، ننساه، نلغيه. نحن من يقرأ النصوص. نختار منها ما نريد. السور لا تتكلّم، نحن نؤوّلها، نولّدها، نحمّلها ما نريد. حتّى يولي الناس وجوههم إلى الدنيا، حتّى يدخلوها آمنين، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يجب أن ندفعهم إلى حبّ الحياة، إلى التفاؤل، إلى الكدّ في الدنيا، إلى العضّ عليها بقوّة...
بحبّ الحياة تطمئنّ النفوس. يكبر العزم. يتمكّن الإنسان من النظر الصائب، من الفعل السليم. بحبّك للدنيا سوف تحبّ نفسك والناس والآخر المختلف. سوف تحبّ العيش في الأرض رغم ما فيها من شوائب وعراقيل. بما تحمل من حبّ للوجود سوف تتأسّس فيك ثقة ناهضة ويولد فيك تحفّز وحركة. سوف يشرق في فؤادك الأمل. يتفتّح في عينيك الأفق واسعا، عريضا. بالحبّ يمسك بك العزم. تنهض، تصارع، تتجاوز. تعمّر الدنيا بهاء ونورا...
يجب أن نحبّ الدنيا حتّى يأخذ كلّ نصيبه. حتّى يحقّق آماله ومبتغاه. لن يقدم على الحياة من سكنه الخوف. كيف هو يرتقي ويسعد وفي قلبه هلع من الدنيا، من الوجود؟ لن يستقيم للعبد الخوّاف نظر ولن يوفّق له سعي ولن يهنأ له عيش... لا خوف من السماء بعد اليوم. هي السماء لنا راضيّة، معاضدة، ملبّيّة. فحيث مصلحة الناس تلقى وجه الله وحيث سعادة الناس ثمّة شرع الله قائما، مضيئا. لا تضارب ولا اختلاف بين ما يريده الإنسان ويبتغيه وما يرضاه الله لعباده أجمعين. لله وللعباد مصالح مشتركة. لهما نفس الغاية والرؤى: تحقيق أفضل عيش للإنسان. تحقيق سعادة البشر في الدنيا.
بعد فسخ الخوف من القلوب وإعادة الثقة للنفوس، يجب أن نجعل من السعادة في الدنيا غاية الإنسان ومقصدا من مقاصد السماء الأساسيّة. جاءت كتب الدين وما فيها من أمر ونهي لإسعاد الإنسان عيشه وعيش أخيه. ما نزلت الكتب السماويّة نقمة للبشريّة. بل جاءت لتجعل عيشه هنيئا، مرضيّا. هو الكون جميعا تحت أقدامه، منّة طيّعة، عظيمة. يجب على الكلّ أن يطمئنّ قلبه وأن ينظر كيف انجاز عيش يرضاه. كيف بلوغ سعادته في الأرض. سعادة الإنسان في الدنيا هي حقّ من حقوق الإنسان الأصليّة. هي شرطها الأوّل. ما الغاية من السعي، من الوجود، من التقوى بلا سعادة في الأرض، بلا راحة بال وطمأنينة؟ كلّ الحقوق الإنسانية الأخرى هي تابعة، هي ثانويّة...
ما بعث الإنسان في الأرض لينكد، ليحيا في اضطراب وخوف. خلق الإنسان ليهنأ، ليسعد وذويه. لينعم بالحياة ويغنم من الدنيا ويأكل من لذّاتها ويشرب من مائها ونبيذها. بحبّ الدنيا، نغالب الشدّة ونغيّر ما في الأيّام من ظلمات وعسر. عندها، يتحرّر العقل من غيب محبط وينطلق كلّ يسعى. بما في قلبه من ضياء ووجد، بما في عقله من نور، بحبّ الدنيا والناس، يتمكّن الإنسان من ذاته ومن أدواته، يرتقي فكره، تخفّ عدوانيّاته في الأرض، يبني عالما أفضل. الإنسان السعيد هو فرد متّزن. له رشاد واعتدال. يحبّ غيره. يبغض الغلوّ والتعصّب. أمّا من سكن قلبه خوف مستقرّ وكان عيشه عسرا وتحسّرا... فلا سعادة له في الحياة الدنيا وأيّامه نكد وغصّة...
السعادة أنماط. جوانبها متعدّدة. لكلّ واحد تصوّره. لكلّ فرد سبله. تتحقّق السعادة لمّا يكون ذاك الإحساس بالرضا، بالهناء. لمّا يحصل ذاك الشعور بالطمأنينة، براحة الوجود. فليسع كلّ واحد إلى تحقيق سعادته وليؤثّث كلّ حياته كما شاء دون تنغيص أو تخويف أو تكفير. السعادة ليست فقط مالا وبنينا وليست فقط حظوة ومكانة. هي تتأسّس لمّا تستعيد القرار، لمّا تسعى لتحقيق ما تحمل من خيال ومبتغى، لمّا تغنم من الحياة كما شئت، لمّا تحدّد طريقك في الحياة، حرّا، طليقا، دون إبليس ولا عسس...
(انتهى)