هي الحياة، متعة وجمال

الحياة عسيرة بالطبع. فيها شوائب ومحن وكروب. في العالم، هناك إرهاب وتلوّث وحروب. في تونس، هناك جهل وفساد وفقر. في كلّ أرض،

هناك هموم وعيش عصيب... رغم العسر وما كان في الحياة من شدّة، يجب أن نحبّ الحياة الدنيا حبّا جمّا. أن نعضّ عليها بالأسنان، بالنواجذ، بكلّ قوّة. الحياة الدنيا، يا سيّدي، هي حسن وبهاء ونعيم. هي الفردوس. فيها فاكهة وحور وبحار ونجوم.
قد نلقى في الحياة شدّة. قد تقسو الأيّام وتغلو. قد نكبو ونطرح أرضا. كلّ هذا ممكن. كل هذا جائز. لكن، كلّ هذا ليس عائقا مانعا. رغم العراقيل، سوف نسعى ونتدبّر. سوف ننهض ونرفع الصعاب ونعود لنحيا. قد يعمّ الظلام وتنسدّ السبل وينتشر الفساد والسوء في الأرض. كلّ هذا ممكن. كلّ هذا ليس عائقا مستحيلا. غدا، سوف نلقى مصباحا أو شمعة أو عود ثقاب ونعيد الضياء ونرى النور مجدّدا. سوف ندفع بالجهد حتّى تتفتّح الطرق ونغالب الفساد والسوء ونعيد للحياة بهاءها... كلّ في موقعه، كلّ حسب جهده، سوف يكدّ لتخطّى الصعاب، لكسب الأفق البهيّ. في سبيل الحياة الدنيا، لن نلقي بالسلاح أرضا. لن يأخذ من عزمنا عائق أو كرب. بعد كلّ كبوة، سوف ننهض، ننظر، ندفع، نقاوم الجهل والفقر ثم نعود لنغنم من الدنيا لذّاتها ونقطف ما فيها من وجد وأزهار وورد... ذاك هو قدر الإنسان. كتب على الإنسان أن يمشي في الأرض قدما. أن يحيا دنياه رغم ما كان من شدائد ومن شوائب متعدّدة.
لا يرى الناس ما أرى. من حولي، يخاف الناس من الدنيا. الكثير يعرض عنها. يخشى ما تحمله من عسر وبلوى. في الضمير الجمعيّ: الدنيا، أصلها غدر ومكر. هي سراب وخدعة. لا أمان فيها ولا اطمئنان ولا عيش ترضى. في ما أرى، قتل الناس الخوف من الدنيا. أصبح عيشهم فزعا. حياتهم وهن وخنوع. كلّ الناس من حولي هم اليوم في شكوى. ينحبون حظّهم المنكود في الدنيا. يتضرّعون إلى السماء العليا...
° ° °
أمشي إلى المساجد فأرى المصلّين خلف الإمام في ضيق، في خوف. يبكون لما جاء في قول الإمام من وعيد ونار موقدة. كلّهم في خشية من يوم الحساب والحشر. يتحسّرون على ما كان للمسلمين من أوتاد وشأن. في المجتمع، تلقى الناس تبكي في الأتراح وفي الأفراح. في القنوات التلفزيّة، في الشوارع، في الأسواق وحيث تدير وجهك ترى الخلق في بكاء، في همّ. يشتكون من الحياة وما فيها من عصب وبلوى والدهر وما فيه من غدر وظلمة. أحيانا، تراهم يتلذّذون بما هم فيه من همّ ومن غصّة. يتباهون بما يلقونه من كدر ومن شدّة. يتفاخرون بما كان لهم في الحياة من مصائب مختلفة... كلّ المصائب عندنا هي ابتلاء من الله وفي الابتلاء حكمة وعبرة. مع الابتلاء "تظهر معادن الناس وحقائقهم" وتتعرّى حقيقة الدنيا...
نحن شعب نحبّ البكاء ونجلّ البكّائين. في بلاد العرب، كان البكاء ومازال سمة مميّزة. هو ركن أصليّ في الحضارة العربيّة. أنظر في كتب التاريخ، في ما حبّر من أدب وشعر، في سيرة الأوّلين، في التراث، سوف ترى كم نحن، في الدموع، غرقى. نبكي على كلّ كبيرة وصغيرة، على ما كان من زمن ولّى. نبكي ذكرى الصحابة ومقتل الحسن والحسين وأيّام هارون الرشيد. نبكي على هجر الحبيب ولمّا نلقاه أيضا. نبكي على ماضي المسلمين وعلى حالهم اليوم... أمّا الأدب، وأصل الأدب ترويح عن النفس، فقد فاض، هو الآخر، نحيبا وشكوى. أدبنا كلّه تظلّم وأحيانا هو زهد في الدنيا أو هو تذلّل للسلاطين أو مدح من أجل الكسب. كل الشعراء وقفوا على الأطلال وبكوا هجر الأحبّة. كلّ الأدباء كانوا بين تسوّل وذلّ. ما كان الأدب العربيّ ملهما للعزم، منهضا للأنفس. جاء الأدب العربيّ جلّه موغلا في النفاق وفي الكذب، مذلّا. لا خيال ولا طرافة ولا وجد فيه. أدبنا، جلّه، جاء نواحا وأنينا. جاء صدى لما في القلوب من وهن وعلّة... حتّى الغناء وما كان من موسيقى ومن طرب، فقد جاء جلّه مشحونا مرارة وحرقة. أغاني أمّ كلثوم وكلّ كبار الفنّانين كانت أغانيهم عذابا وآهات. حتّى في قراءة القرآن، المرتّل الحسن هو ذاك الذي في صوته لوعة وفي نبراته شجن وحزن...
الكلّ في تونس تراه يشتكي الزمان، يبكي الحياة الدنيا. لا مرح ولا ضحك ولا لهو في أرض الإسلام. الضحك عيب وأصحاب اللهو والزهو هم أصحاب الشياطين. الحياة قنوط ومن هزّه الضحك يوما فلسوف يلقاه غدا بؤسا وشؤما... عندما كنت صبيّا، كانت أمّي هي مربّيّتي. كانت تريدني أن أكون رجلا صنديدا، فحلا. كانت تقول لي جهرا وسرّا: "انتبه يا فتى. في الحياة، اسمع كلاما يبكيك ولا تسمع كلاما يضحكك. ففي الضحك ضياع وفي البكاء قوّة وشحذ للأنفس"...
مرّة، في الحجّ، في عرفة، دعاني الإمام إلى أن أنظر مليّا في الأفق، أن أطلب من السماء لي ولوالديّ غفرانا ورحمة. فعلت وكنت في خشوع. رفعت كفّيّ للتشفّع، للتضرّع. دعاني الإمام أن أبكي بحرقة حتّى تسمع السماء دعائي وترحم والديّ. اجتهدت. انقبضت. أبت عينيّ أن تقطرا دمعا. قال: "يجب البكاء في يوم عرفة" وانصرف عنّي بعيدا. كان الحجيج من حولي يذرفون الدموع وكلّهم توسّل وفزع...
° ° °
نحن شعب بكّاء لأنّنا شعب خوّاف. نخاف السماء خوفا شديدا. الكلّ تسمعه يقول ويؤكّد "هو يخاف الله" ويخشى عقابه الشديد. نحن لا نحبّ الله لذاته. نحن نهابه. نخشاه لما له من بطش ونار جهنّم. يرى المسلمون السماء عفريتا شرّيرا. في يديه عصا غليظة. في فمه نار سعير. على يمينه وشماله حرّاس وملائكة. يتابعون العباد. يراقبون أقوالهم وأفعالهم. يوثّقون عنهم كلّ ذرّة خير وشرّ. "هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة". لا سهو فيه ولا نسيء. فاعلموا يا مسلمين أنّ في السماء، لمن "آثر الحياة الدنيا"، ملكا جبّارا، ظلوما، سوف يصلى بناره من آثر الدنيا وأعدّ للكافرين "عذاب جهنّم وبئس المصير"...
من تبعات الوعيد وما كان من نار جحيم، أصاب المسلمين هلع بليغ. أربك حياتهم الترهيب. الكلّ يرتجف من "بئس المصير". الكلّ يخشى الخروج عن الصراط المستقيم. قطع أنفاسهم كلّ خروج عن الدين. منذ أوّل الزمن، يعيش المسلمون في خوف شديد. أربكهم الدين. أجّج بغضاءهم للدنيا. كلّ شغف بالدنيا، كلّ اغتنام لما فيها من لذّات ونعيم هو جرم كبير وعقابه شديد. كذلك، يحيا المسلمون. في هلع لا ينتهي. الكلّ خائف من عذاب القبر، من يوم الحشر، من يوم الدين ولمّا نبعث من جديد... في رؤوس المسلمين صور مفزعة. أفلام مرعبة. الكلّ يترقّب مرتجفا ما سوف يكون من عذاب أليم... خوفا من سوء المصير وهذه سيوف على رؤوس الناس مسلولة، أعرض العرب عن الدنيا. بغضوها. عيّروها. الدنيا مضيّعة للعمر. مفسدة للأخلاق. محرّضة على المعصيّة. و"من آثر الحياة الدنيا فإنّ الجحيم هي المأوى" يقول القرآن الكريم. فويل للدنيويين الذين غلّبوا الدنيا على الدين.
كذلك عاش العرب في بغضاء مع الدنيا. يعرضون عن لذّاتها ونعيمها. لا يعرفون فرحا ولا سرورا. كلّ مرح أو زهو، كلّ انشراح أو طرب هو مكروه. بعضهم يقول هو محظور. بعضهم يقول كلّ لذّات الدنيا حرام وفيها إثم كبير. هي سبيل الشيطان يأتيها لإغراء ضعاف الإيمان والدين. كذلك، أصبحت حياة العرب نكدا متّصلا، ظلاما مبينا. عيشهم شظف. دوما، في شدّة، في شقاء، في قنوط...
مات الحسّ وانتهى عند العرب العزم. غلّقوا أبواب الدنيا. أوصدوا بالأقفال قلوبهم. انتهى عندهم الحاضر والزمن. عيونهم إلى الماضي منقلبة. الكلّ ينظر في أخبار السلف وسنن الرسول. الكلّ يحيا في رحم الماضي السحيق. لا حاضر للعرب ولا غد قريب. "اليوم" مفهوم مبهم، ليس له وجود. لا يحمل الغد معنى. لا أثر له في القلوب. الغد من مشيئة الله. هو من علم عالم قدير. الأنبياء والكهنة وحدهم يتنبئون ويتكهّنون. نحن، معشر المسلمين، نحيا في أوّل الزمن، مع عنترة وعبلة وإبليس. نحن في قاعة الانتظار. ننتظر الساعة ورؤوسنا مشدودة إلى الزمن القديم. لا نرى. لا نسمع. لا نتغيّر.
(يتبع)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115