تركنا الاقتصاد وانشغلنا بالعقيدة ، فزاد تخلّفنا ...

بقلم: رشيد الكرّاي
 منذ القدم كان الاقتصاد المحرك الأساسي في تحديد توجهات الكيانات السياسية وحتى الاجتماعية، وكان الهدف الرئيسي

في كلّ الحروب التي نشبت على مر التاريخ وراءها هو الاقتصاد، وما تباين فيها كانت الأدوات والعوامل المجردة، فحتى الفتوحات الإسلامية والحروب المقدّسة المسيحيّة التي كان الدينُ السببَ المعلن لها ، كان الاقتصاد هدفها الحقيقي وغايتها.
في العصر الحديث وبعد تعقيد المفاهيم الاقتصادية بفعل الثورة الصناعية ثم التكنولوجية فالرقمية أصبح الاقتصاد متحكما لا فقط في نشوب الحروب بين الدول والمجموعات وإنما حتى في نوعية العلاقات السياسية بينها.

والجهة الوحيدة التي شذّت عن هذه القاعدة وانحرفت عن منطق الأشياء هي الشعوب العربية . فمع بروز حركات إسلامية تدعو إلى تحكيم الشرع في المجتمعات العربية وترفع شعار الإسلام هو الحل، أصبحت العقيدة المحور الرئيسي للصراع لديها، سواء بين هذه الحركات والحكومات القائمة، أو بين هذه الحركات والقوى الدولية، أو بين هذه الحركات بين بعضها البعض، وتم توظيف الاقتصاد لديمومة هذا الصراع .

 وبات واضحا اليوم أن السبب الرئيسي لوضع العقيدة محورَ صراع الحركات الإسلامية مع الآخرين ، هو افتقار القائمين عليها للحنكة السياسية اللازمة ، وعدم الإلمام بتعقيدات حياة عصرهم والعلاقات الدولية الحديثة. فأتباع هذه الحركات ما زالوا يعيشون في متون الكتب القديمة الصفراء وتقتصر مداركهم على العلوم الدينية التي تجعل الفرد يفكّر ببعد فكري واحد ، دون أخذ بقية الأبعاد في الاعتبار. لذلك نرى أن تلك الأحزاب والحركات استُغلت بسهولة من قبل القوى الدولية وأجهزة مخابراتها تحرّكها حسب مصالحها بشكل مباشر أو غير مباشر لضرب اقتصاديات بلدانها ، واستنزاف طاقاتها المالية في صراعات لم يخرج منها أي طرف منتصرا إلى غاية يومنا هذا.
هناك نقاط معينة تميز الصراعات الاقتصادية في العصر الحديث عن تلك التي تكون أهدافها عقائدية :

 أولا : إن الحروب لا تكون نتيجة حتمية للصراعات الاقتصادية إلا في ما ندر، بينما لا توجد مساومة في الصراع العقائدي لذلك تكون الحروب هي الحل الأقرب وتكون لها الأولوية.

ثانيا : الصراع الاقتصادي يستنزف الطرف المهزوم فقط ، بينما يمكن للطرف المنتصر تعويض خساراته المالية كنتيجة حتمية - إذا لم يصل الصراع إلى مستوى الحرب- أما في الصراع العقائدي فإن جميع الأطراف خاسرة ومهزومة تستنزف اقتصاداتها دون أن تكون لها القدرة على التعويض ، ولنا في الحرب العراقية الإيرانية الشهيرة في ثمانينات القرن الماضي خير دليل.

ثالثا : إن الصراع الاقتصادي تكون نتائجه مادية ملموسة للطرف المنتصر، بينما في الصراع العقائدي فإن الأموال توظف وتصرف لانتصار أفكار عقائدية غير ملموسة ، وبذلك تكون نتائجها سرابا حتى للطرف المنتصر.
إن حركات الإسلام السياسي التي تختزن في ذاكرتها العقائدية تسخير النفس والروح من أجل نصرة عقيدتها ، لن تتردد بالتأكيد في تسخير الاقتصاد من أجل تلك العقيدة، ولا ندري كيف يمكن لعقيدة أن تُعتبر منتصرة على أشلاء اقتصاديات مُدَمّرة ومتهالكة في مجتمعات جاهلة ومتخلّفة.

 وإذا ما حاولنا تقدير المبالغ الهائلة التي صرفت على الصراعات العقائدية في المنطقة بين حكومات دولها من جهة ، والحركات والأحزاب والمنظمات العقائدية من جهة أخرى ، نستطيع تخمين الدمار الذي لحق بالمنطقة جرّاء هذا الصراع العبثي الذي يعصف اليوم بأكثر من دولة عربية كالعراق وسوريا وليبيا ، ولحقنا دخانه في بلدنا تونس .
كل هذه الأموال الضائعة تُظهر لنا حالة الاستنزاف التي تسببت بها حركات الإسلام السياسي ، ولنا أن نتخيّل وضع هذه الدول لو أن هذه المبالغ الهائلة قد أُنفقت على التنمية والازدهار لنُدرك مدى الدمار والضرر اللذيْن لحقا بمنطقتنا جراء وجود هذه الأفكار العقائدية فيها.

الغريب أنه ورغم الدمار والتخلّف الذي لحق بشعوب منطقتنا بسبب إقحام العقيدة في محور الصراع ، وتحول كياناتها السياسية الى دول هُلامية تفتقر الى أبسط مقوّمات الدولة ، إلا أن الكثير من هذه الشعوب أو على الأقلّ شرائح اجتماعية لا يستهان بها صلبها، مازالت مصرّة على رفع شعار الإسلام هو الحل والمضي في ذات الدرب الذي لم يجن منه الأولون خيرا عوضا عن الآخرين .

صدق من قال يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعل العدوّ بعدوّه ...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115