تفيد أن شيئا ما ليس على أحسن ما يرام. البرلمان هو الآخر قي وضع يحتوي على درجة عالية من التشنج ومن العنف السياسي المتبادل ماديا ورمزيا. هناك دعوات للانتقاض على المنظومة السياسية الحالية وتغيير قواعد اللعب، وهناك من كان أكثر صراحة بأن دعا إلى جمهورية ثالثة. وفي الأثناء مازالت مشاكل الفسفاط الذي تلقي بظلالها على المشهد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. وطفت على السطح منذ أيام مسألة صندوق الزكاة الذي وقع إحداثه في إحدى بلديات العاصمة ليعيد إلى السطح جدل الهوية وجدل هوية الدولة.
نحن إذن أمام مشهد متنوع الخلافات والصراعات لا وطنيا فحسب بل إقليميا كذلك والموقف مما يحدث في ليبيا والاصطفاف وراء هذا أو ذاك زاد في قتامة المشهد دون أن ننسى تبعات أزمة الكورونا وتداعياتها المختلفة. هل نحن في هذه الحالة نحتاج إلى مثل هذه التشنجات؟ هل نحتاج إلى مزيد من التصعيد؟ هل نحتاج إلى نسف مكتسبات الانتقال الديموقراطي؟ أم نحتاج أكثر إلى التحاور بين مختلف الفرقاء من أجل أن تبديد حالة الغليان والتشنج وبالتالي فتح أفاق أوسع للتفاهمات التي ترضي الجميع في الآخر؟
ما يحدث الان - هو فقط- مبادرات يقودها سياسيون ونخب من أجل تهدئة الأوضاع المتشنجة. وهذه المبادرات هي أقرب إلى إعلان نوايا منها إلى أي شيء آخر. إذ هي لا تمتلك آليات الوساطة السياسية الضرورية للبدء في حوار من أجل منع أي انزلاق نحو عنف سياسي دام. لقد كانت لنا تجربة وساطة سياسية تمكنت من إرساء دعائم الدستور وتمكنت من التقريب بين وجهات نظر متناقضة تماما وأعطتنا تجربة الحوار الوطني الشهيرة. ولكننا لم نستفد من هذه التجربة بما يكفي لنستعين بها في أزمات لاحقة لأننا اعتقدنا أنه بوجود التفاهمات المطلوبة حينها لا يمكن ان تندلع خلافات كبرى كالتي نحن بصددها الآن.
هناك إذن قلق ما من المنظومة السياسية الحالية، والقلق آت من الآزمات التي يعانيها البرلمان ومن الفاعلين السياسيين الذين أتت بهم منظومة الانتخابات الحالية ومن الصعوبات الكبرى في تشكيل الحكومات وفي استمراريتها بما يؤثر على الآداء الحكومي ويبقي الأزمات المختلفة عالقة. هناك فعلا ما يثير القلق السياسي من غياب المحكمة الدستورية وهي الحكم الآبرز في مثل هذه القضايا، ولكن بمثل هذه المنظومة السياسية وتركيبتها يصعب جدا إحداث هذه المحكمة في المنظور القريب.
كيف لنا مواجهة وضع سياسي ينبئ بتناقضات وصراعات كبرى؟ كيف لنا إيجاد حل من داخل المنظومة الديموقراطية وآلياتها؟ هل سيتم الاحتكام للشارع؟ هل نحن مقبلون على عصيان مدني وهناك من يسميه عصيان ديموقراطي؟ هذه هي الأسئلة التي يجب أن تكون لنا عليها إجابات واضحة، فالغموض هو الذي سيدفع بالصراع إلى مزيد من المواجهات. وهنا بالذات نحتاج إلى الوساطة السياسية التي تعيد بناء الثقة بين الفرقاء السياسيين وتعطي أملا في حلّ سياسي شامل ومنطقي لمنظومة سياسية بدأت تكشف عن بعض مساوئها و هي في أوكد الحاجة لبعض التعديلات الضرورية.
تتطلب الوساطة السياسية أولا أن يتفق الفرقاء على وجود أزمة حقيقية تتطلب إعادة النظر في بعض تفاصيل هذه المنظومة. إن إنكار وجود أزمة فعلية وهيكلية في بعض أركان هذه المنظومة وخصوصا الركن الانتخابي فيها قد يزيد من حدة التشنج وقد يفتح الأمور على مواجهات تصعب إدارتها. كما أن التشبث بنسف كل المنظومة الحالية والإتيان بمنظومة جديدة كليا هو الآخر تصرف يمكن أن يؤدي إلى فتح الصراع أمام مواجهات لا يمكن للبلد تحملها في ضائقة اقتصادية لا مفرّ منها. إن الإقرار بوجود أزمة وتحديد ملامح هذه الأزمة هو الشرط الأساسي لوساطة سياسية ناجحة يمكن أن تقدّم بالمسائل الخلافية بشكل جيد.
من الواضح أنه بعد تجربة الرباعي الراعي للحوار لم نقم بتقييم التجربة والبناء عليها من أجل تعديل المناخ السياسي ومواجهة المطبات التي يمكن أن تعترضنا في كل وقت. ولكن يمكن للقوى الاجتماعية مع شخصيات وطنية مقبولة أن تقوم مجددا بهذه الوساطة السياسية وفق قواعد تفاوض واضحة للجميع وبأهداف معلومة من الجميع وأهمها صياغة ميثاق أخلاقي سياسي وإحداث المحكمة الدستورية وتعديل في القانون الانتخابي بما يجعل الناخبين أكثر دراية واقتناعا بالأشخاص الذين ينتخبونهم.
في كل وساطة سياسية هناك معنيون بها بشكل مباشر حاضرون في أدقّ تفاصيلها ومستفيدون بشكل أو بأخر بهذه الوساطة. ونعتقد أن الأحزاب السياسية البرلمانية وغير البرلمانية إضافة إلى المنظمات الوطنية الكبرى معنية بشكل واضح بهذه الوساطة من أجل تجويد العملية السياسية وإعطاء نفس جديد للمنظومة السياسية الحالية دون أن بقودنا ذلك إلى فوضى سياسية تزيدها الآزمة الاقتصادية الخانقة أكثر تعقيدا. هناك فرص للحوار ممكنة، وهناك إرادة لتجاوز مطبات المرحلة بعيدا عن التشنج و المهاترات غير المسؤولة. الوساطة السياسية تفرض نفسها الآن بديلا عن الدخول في اللاّمعنى...