وتخترع مسارات جديدة "وتحشر الفرد ضمن مكان ثابت " و يكون الهدف المعلن من الحجر الصحي احتواء انتشار الوباء، لكن الوضع الجديد الناشئ يمثل فرصة فريدة لتشكيل مجتمع منضبط ، يطبق النظام "حتى في ادق تفاصيل وجوده"
والاستثنائي في الأوبئة أن الانضباط للسلطة يكون سريع الاستجابة حيث يتطابق استعداد الافراد مع ارادة السلطة في قبول الحجر والعمل على تطبيقه بكل جزئياته وتفاصيله ويقبل المجتمع ما يترتب عنه من عقاب عند مخالفته، وهذا نعيشه مع جائحة كورونا الحالية ، فقد اشاد، مثلا، العديد من المغاربة ، عبر صفحات التواصل الاجتماعي وبعض الصحف بعقوبات السجن والخطايا التي فرضتها السلطات المغربية على المخالفين للحجر الصحي، وهي اجراءات تعتبرها العديد من المنظمات الحقوقية مبالغ فيها.
"هندسة القمع:
تتجاوز ارتدادات وباء كورونا الجوانب الصحية والمخلفات الاقتصادية والاجتماعية لتطرح مآلات أخرى مثل قضايا حقوق الانسان والديمقراطية والحريات العامة وحرية الاعلام والحق في تداول المعلومة وذلك خلال الأزمة وبعدها ، خاصة وان الوباء جاء في زمن عرفت فيه الحريات العامة تراجعا غير مسبوق ، حتى في البلدان الديمقراطية العريقة، وفرض الحجر الصحي اجراءات جديدة ، مثل اعلان حالة الطوارئ في البلدان الموبوءة واصدار مراسيم تحد من الحريات ، وخاصة منها حرية التنقل ليلزم المواطنون منازلهم ويعاقب من يخالف "التعليمات" بالخطية والسجن وسحب رخص السياقة الخ.... لكل مخالف ، كما هو الحال في تونس ، و امام الخوف من انتشار المرض ، قوبلت هذه الاجراءات بالرضا ، اذ انها اعتبرت ضرورية للحفاظ على الحياة ،
ان تستغل الحكومات ، وخاصة تلك التي تعاني من غياب الديمقراطية ، الجائحة من اجل فرض مزيد التسلط وضرب الحريات واصدار المراسيم الفورية التي تنتهك حقوق الانسان وتزيد من التضييق على المعارضين والصحفيين ، فهذا ما اشار اليه اكثر من تقرير محايد،
فالمنطقة العربية، التي عرفت عديد بلدانها احتجاجات دامت لأشهر مطالبة بالديمقراطية والحريات والتداول السلمي على السلطة ومقاومة الفساد ، عرفت توقفا استغلته الانظمة لمزيد الإمعان في التسلط ومنع تداول المعلومات غير تلك التي تصدرها السلطة حول الوباء وتنظيم المحاكمات للنشطاء، املا في ان لا تعود الاحتجاجات عند عودة الحياة العادية .
قال المستشار السابق بوكالة المخابرات المركزية الامريكية والذي فجّر سنة 2012 فضيحة كبرى حول مراقبة وكالة الامن القومي للأمريكيين ، جوزيف سنودن، انه بقدر ما فشلت الحكومات في مواجهة الوباء فإنها استغلت الاوضاع التي فرضها هذا الوباء من اجل "هندسة القمع"، مؤكدا ان التفويض الذي حصلت عليه الحكومات للحد من انتشار الجائحة من قبل الشعوب سيعود على هذه الشعوب بالضرر، لأنها في الوقت الذي تضحي بحريتها من اجل التوقي من فيروس قاتل ، فإنها تضحي بقدرتها على حماية نفسها من المرور بخطى سريعة الى عالم اقل حرية، و الحقيقة، ان كانت الشعوب معنية بتطبيق الحجر الصحي ، فليس لها ان تقبل بالنزعات التسلطية للأنظمة وتأبيد الاوضاع الاستثنائية .
"الشهوة الامنية للسلطة"
وكما كان عليه الوضع بعد عمليات 11 سبتمبر 2001 وتنامي الارهاب في العالم فان الحكومات كثيرا ما تستغل مشاعر الخوف للتضييق على الحريات ، حينها، تذكّر منظمة "هيومن رايتس ووتش " طلب الناس من الحكومات حمايتهم وقد اغتنمت بعض الحكومات الفرصة لتقويض الحريات بشكل يتجاوز حدود التهديد الارهابي.
وكانت الامم المتحدة مدركة لاستغلال بعض الحكومات لأزمة الوباء لمزيد التضييق ، فقد نشر عشرة مقررين خاصين لحقوق الانسان، في مارس 2020، رسالة قالوا فيها، انهم رغم ادراكهم لخطورة الازمة الصحية واقرارهم بضرورة استخدام حالات الطوارئ للاستجابة للتهديدات الكبيرة الا انه يجب ان "تكون الاستجابة لفيروس كورونا متناسبة وضرورية" ولا يجب "ان تكون غطاء لاتخاذ تدابير قمعية تحت ستار حماية الصحة أو قمع المعارضة" .
لكن هل ستنتهي الاجراءات الاستثنائية
بانتهاء ازمة كورونا؟
لا يعتقد العديد من الخبراء ذلك ، فقد تحاول الحكومات مواصلة الاجراءات الاستثنائية ، مجلة "فورين بوليسي" اعتبرت ان الوباء ساوى بين الديمقراطيات والديكتاتوريات حيث وفّر لهم جميعا فرصة لا تعوّض من اجل تقليص مجال الحريات المدنية مضيفة انه بعد نجاح الحكومات (النسبي وبدرجات متفاوتة) في الحد من انتشار الفيروس عبر اجراءات الحجر الصحي وحظر التجول ، فان العالم سيواجه خطرا آخر، وهو ان الديمقراطية ستعرف انحسارا غير مسبوق يتواصل حتى بعد انتهاء ازمة كورونا، مضيفة ان الخطر ليس في وجود هذه الاجراءات الان ، بل تحويلها من اجراءات "استثنائية الى دائمة".
الشعبوية، الكافرة بالديمقراطية والمؤسسات ، التي نمت في الغرب خلال العشرية الاخيرة لأنها وجدت تربتها الخصبة في الخوف ، الخوف من الارهاب ، من المهاجرين ، من البطالة ، من الاوضاع الاقتصادية الصعبة ، من المستقبل الغامض ،، قد تشهد عودة ثانية مع الازمة الاقتصادية التي سيعرفها الاقتصاد العالمي في السنوات القادمة ومع احياء النعرات العرقية وتنامي العنصرية وغلق الحدود، و الامريكيون، الذين عرفوا المعالجة السيئة للازمة والتعنت الجنوني من قبل ادارة ترامب، اصبحوا ،حسب المعهد الامريكي للإحصاء "بيو "، يعتقدون بنسبة تتجاوز الخمسين بالمائة منهم بوجود خطر حقيقي ان تصبح الولايات المتحدة بلدا سلطويا.
وينبه يورغن هابرماس ، احد رموز مدرسة فرنكفورت النقدية ، ان الحد من عدد كبير من الحريات يجب ان يكون استثناء لا يسمح باستمراره بشكل قاطع استثناء يستوجبه الحق في الحياة والسلامة البدنية، ويدعو المجتمع المدني إلى أن يحترس من التضحية بفضائل الديمقراطية على مذابح الامن. لكن هل يستطيع المجتمع المدني الحد من نهم الانظمة الى مزيد التسلط؟