ويجب ان نفخر بذلك دون ان تشغلنا تصفية الحسابات عن الإقرار بهذه الحقيقة .
يجب ان نكتب سردية نجاح ليس فقط لان هذه هي الحقيقة بل لانها تقوم بدور التعبئة لمعارك المستقبل وهي اكثر تعقيدا مما مضى و مما قد نتصور .
فالأكثر تعقيدا لا يزال أمامنا.
لذلك يجب ان نركز على الاشتغال داخل التراب الوطني من اجل تثبيت المكاسب و التأكد من عدم الانتكاس ،وهذه مسالة يمكن ان نتحكم فيها كتونسيين لانها بايدينا و قد تكون العوامل المناخية مساعدة عليها .ونحن هنا نسابق الزمن.
و لكن لا يتصورن احد انه بالإمكان العودة الى "الوضع الطبيعي"في بلد بمفرده .فدرجة التشابك في علاقاتنا الاقتصادية السابقة لا يمكن التخلص منها او تجاهلها. ولا يمكن اعادة الحركية في محيط رغم الأهمية المعنوية و حتى الاقتصادية لكل سبق زمني .فأهم خاصية للاقتصاد التونسي هي الانفتاح، وهي نقطة قوته ونقطة ضعفه و لا يمكن ان يتحمل الإغلاق لمدة طويلة وخاصة مع الشركاء المباشرين .
غير ان شركاءنا الاساسيين في الضفة الشمالية للمتوسط من اكثر المتضررين و ووصولهم الى وضع التحكم يتطلب اشهرا .
اما في ليبيا فالظاهر ان الاوضاع هي راهنا تحت السيطرة و لكن ليبيا بلاد عبور و فتح الحدود معها لن يكون اقل من مجازفة .اما الجزائر فالأوضاع الصحية فيها لحد الان ليست بالوضوح المطلوب .
هذا يعني انه مطلوب منا تثبيت المكاسب الصحية بتنمية روح الانضباط داخليا من جهة و بالتعامل بحذر مع احتمال فتح الحدود. و لكل هذا تكاليفه الاقتصادية و الاجتماعية .
ولذلك لا يمكن التفكير في المستقبل، وفي "المابعد"دون استحضار عامل الزمن ،ومراقبة تطور الحالة في العالم و عند شركائنا، وتدقيق الموازنة بين حماية الأرواح و الاعتبار الاقتصادي .و بالتاكيد فان المسألة ليست بالحدية التي يسوق لها ،اذ ان المحافظة على الدورة الإنتاجية هي ايضا محافظة على الأرواح .
2 - في الأسابيع القليلة التي تلت اعلان منظمة الصحة العالمية الوباء جائحة عالمية بتاريخ 11مارس حفلت منتديات التداول عبر العالم بثمرات العقول و الاحاسيس بما لم يحصل مثله من قبل ،بدءا بحكايات حجر يتجلى فيها الإنساني بكامل فخامته وجلاله ،وبساطته وتعقده، وقوته وضعفه ،وتطلعه الملائكي وسقوطه الشيطاني ،الى نقاشات عميقة حول "الماقبل"و "المابعد"شارك فيها مفكرون و سياسيون ومتابعون في ورشة ضخمة مفتوحة كان فيها المزاج العام في البداية راجحا باتجاه القطيعة ،فالوضع الراهن هو نتيجة خيارات كبرى يجب ان تتغير .وهكذا تعالت أصوات تذكر بما تقول انها كانت قد نبهت اليه من قبل "ألم نقل لكم "،و لكن الطريف ان علامات رئيسية من وجوه "السيستام "في العالم قفزت
على الفرصة وانقلبت على نفسها وغيرت مفردات خطابها لاحتواء الاوضاع و الاستعداد للمستقبل .
وهذا السلوك معتاد في المنعرجات و يلجا اليه الاذكياء و الانتهازيون و اصحاب المصالح .
ولم يكن من السهل يوما ان تفرط المنظومات القائمة في مواقعها و مصالحها .
ولكن الموجة تتجه الى تعديل الكفة باتجاه التهوين من عمق التغييرات المطلوبة .
لكننا نعتقد ان خيار الاستصحاب اي استئناف السير من محطة ما قبل اكتشاف الكورونا لن يفلح ،بل ستحصل مراجعات عمقها ومضمونها هو حصيلة صراع القوى بين مطامح تغيير لا يمكن ان يكون جذريا على الأقل راهنا ونوازع محافظة لا يمكن ان تقنع ان شيئا لم يقع .
الاكثر إلحاحا هو حصول تغييرات تخص المنظومة الصحية .
ثم ستحصل تغييرات في الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والسياسية والاستراتيجية، وستأخذ وقتا.
أما التغييرات العميقة ذات الطابع الثقافي القيمي فهي ستحصل بدورها، و لكنها ستأخذ وقتا اطول .
3 - طلب التغيير في تونس سابق على الكورونا، فقد طالبت وبشرت به الثورة و اكدته الانتخابات الاخيرة، وستجعل منه الجائحة مسألة حيوية.و رغم انها ستسلط عليه ضغوطا الا انها ستوفر له فرصا .
والخط الاساسي الذي يقود تفكيرنا هو ان الجائحة لعبت دور الكشاف لمواطن ضعفنا وهشاشتنا و لكنها ابانت ايضا نقاط قوتنا، وفتحت اروقة وفجوات للحراك .
التحولات الكبرى هي فرص إعادة التموقع.
والحرب القادمة هي حرب اعادة صياغة العولمة ومحاولة استرجاع ما افتكته الصين او تم التفريط لها فيه في العشرين سنة الماضية ،وسيكون الصراع حول موقع نقطة ارتكاز العالم هل ستعود باتجاه الغرب كما كانت عليه العادة منذ خمسة قرون ام ستنزاح شرقا مثلما كان الاتجاه في العقود الاخيرة و ستكون افريقيا ابرز ساحات هذه المعركة .و سيختبر الجميع مدى جدية مفاهيم من نوع اعادة توطين الانتاج الصناعي ،كما سيتضح ان كان رأس المال سيخضع لإملاءات الدولة الوطنية ام سيخضع فقط لمنطقه الخاص .
احدى ورشات المراجعة هي كيفية استفادة تونس من هذه المعركة بتوظيف معطى الجغرافياو معطى طاقاتها الشبابية و كفاءة يدها العاملة و تميز إطاراتها الشابة في قطاعات صناعات المستلزمات الصحية و في قطاع توفير مستلزمات الرقمنة ،بالاضافة الى تثمين الفلاحة و الصناعات الغذائية .
4 - غير ان المعادلة التونسية للتغيير تتطلب مراجعات عميقة تتعلق بدور راس المال ،و ادارة القطاع العام، و نوعية القيادة السياسية .
فلا يتصور اي مجهود للإنتاج الصناعي او الاستثمار الفلاحي او الخدماتي دون دور فاعل لرأس المال الوطني .
وهذا يتطلب كسر قالب ذهني يربط بالضرورة الثروة بالتحيل و الفساد أنتجته ثقافة سياسية نضالية كانت محكومة بالثنائيات المتناقضة ،كما أنتجته علاقات زبونية لدوائر من راس المال مع منظومة حكم مستبدة وفاسدة وكذلك مع راس المال الأجنبي .
وبمقدار ترسخ ثقافة العدالة والشفافية تستعاد الثقة وتوظف كل الموارد و نخفف من العلاقات الصراعية .
ومن شان هذه المراجعة ان تعيد بناء علاقة العامل بالمؤسسة كما تعيد بناء محتوى وصيغ العمل النقابي.
كما اننا بحاجة الى اعادة النظر في طريقة ادارة قطاعنا العمومي .
للاسف لقد أورثنا انفتاحنا شبه الحصري على النموذج الفرنسي عدة إعاقات هي محل مراجعة في بلادها منها الصراع الحدي في المسائل الثقافية والمجتمعية، و منها البيروقراطية المتضخمة و المعقدة ومنها المركزية المشطة ،ومنها النظرة شبه الدينية في معالجة الادارة وتدخل الدولة في القطاع الانتاجي .
نحن بحاجة لاعادة نظر مرنة تميز بين الأهداف والغايات و بين الوسائل و تنظر للقضايا نظرة مركبة وتأليفية لا نظرة مانوية فيها الأبيض و الأسود فقط .
5 - غير ان العائق الاساسي الذي قد يعترض استكشافنا للفرص و الاستفادة منها انما هو العائق السياسي .
اننا كنا نؤكد ،ولا نزال ،ان الاشكال الاساسي في بلادنا انما هو اشكال قيادي .
لقد أضعنا فرصا كثيرة في السنوات الماضية بسبب تاخر المشهد الحزبي و المشهد المؤسساتي عما تتطلبه الثورة و عن وعود كل الانتخابات .
ان فشل نداء تونس في امتحان الديموقراطية وبالتالي في التحول الى حزب سياسي، وفشل التوافق السياسي بين الحزبين الابرزين بعد انتخابات 2014في التحول الى التقاء منتج على إساس برنامج ،ادى الى هشاشة مؤسساتية والى نفور من الاحزاب و الى رد فعل تجلى في انتخابات الخريف الماضي وكان من نتائجه المشهد الحالي .
ان العلاقة بين المراكز الاساسية في الدولة وطريقة ادارة ملف تشكيل الحكومة و كذلك مناخات الجلسات البرلمانية و اولويات العمل التشريعي و العلاقة بين مكونات الحكومة لا تدل كلها على استيعاب الدروس السابقة .
إذا استمرت الاوضاع على ما هي عليه سنكرر تجربة حكومة تتحرك بين الألغام للمحافظة على وجودها، و تتحسب لمناورات مكوناتها اكثر مما تتحسب لمخططات خصومها، وحينها لن تقدر على ضمان الحد الأدنى من الاستقرار الاجتماعي فما بالك باقتناص الفرص وفتح الافاق وإعادة التموقع و تعديل الوجهة .
6 - يجب ان نحرص على السبق المعنوي في التحكم في الجائحة، ويجب ان نحرص بعد ذلك على النظر الفسيح في الجغرافيا و على التفكير طويل المدى وعلى تغيير الثقافة وردود الفعل و على فتح الطريق امام شباب متحمس وكفء وإطارات مبدعة و اجيال جديدة من المستثمرين لهم الاستعداد للمغامرة و المشاركة في البناء الوطني في اطار علاقات شفافة هي صلب العدالة و صلب الحوكمة الرشيدة .
الكرة مرة أخرى بيد السياسيين .
بقلم: عبد الحميد الجلاصي