ووجوهه، ولو تأملنا وعلى سبيل المقارنة أحوالنا بين سنة منقضية واليوم وفي أي موقع جغرافي كان، لتَيَقَنَا أن الفائت أفضل من الراهن، على خلفية ما نعيشه من جمودٍ على غير صعيد، وأن المستقبل يكتنفه الغموض، غموض وباء إستوطننا وخَلَفَ بإستيطانه قدرا هائلا من التداعيات، لنجد أنفسنا إزاء حدث كوني مؤثر في حياة البشر ومهيمن على مصائرهم، قد ندخل معه عصرا جديدا، لعله الحدث الذي ما نزال نعيش تحت وطأته ونتعايش مع مفاعيله إلى حدود اللحظة، ولتحتل أذهاننا، نفوسنا ووجداننا، بحلوله، مفردات ومصطلحات وطقوس معيشية جديدة كانت سالفا غريبة عنا، فترانا اليوم وبعد تجاوز عدد الإصابات المؤكدة بجائحة الكورونا المستجد عالميا أربعة ملايين حالة حسب آخر التقارير الإستبيانية المسجلة بتاريخ 12 ماي 2020، ننخرط في مفردات أزمة منتهكة للحقوق وسالبة للحريات، ونتعاطى بشغف ديمومة شأنها الصحي والإستشفائي، ولنتحدث جميعنا ودون إستثناء بلغة إطارها التوقي من الوباء، ونجدول تفاصيلنا اليومية حسب مواقيت الحجر الصحي، ونترقب يوميا معدلات إنتشار الفيروس لنستعلم الإصابات والوفيات، ولتنشتغل عقولنا بما هو سائد ومسيطر في قراءةٍ للمستجدات وتأمل لتفسيرات إزاء واقع بشري وحقبة حضارية لا تنفك تندغم في هالة من التعقيد، ومن الآفاق المسدودة، تعقيد يحيط بما ستؤول عليه حياتنا، معاييرنا، ثقافتنا، فنونا، سياساتنا، إقتصادنا وحتى ذواتنا، مستقبلا.
لعلنا أمام محاولة طرحٍ إشكالي وجيز نسائل عبره الآتي في المشهد الفني التشكيلي بواجهته التونسية وكذا العالمية، لنعترف بالحاصل إذا شأنا معالجته وتدبره، بما هو بأبنيته، أطرافه وروابطه إطار متغير بتغير الأحداث ومتحول بتحول المستجدات، فلا مراء بأننا قبالة حدث جسيم وفريد من نوعه، جعلنا بتأثيراته موضع جدال حاد، حدث أعمى من حيث حجم الخسائر التي يكبدنا إياها وفي دقائق ولحظات معدودة، منتهكا حقنا في الحياة ومكبلا حريتنا كمبدعين، مقصيا أية بوادر سباحة لنا ضد التيار، ليصيبنا بحلوله الإلتباس نحو آتي داهم، ولتنخرط ثوابتنا، مواقفنا، إستراتيجياتنا وطموحاتنا الفنية ضمنيا ولا إراديا ضمن مشهد الأزمة الراهن بتيهه وتيهانه، ولنختلط بأبعاده المستقوية ونلتبس بمعانيه الإستعبادية، فتتغير إثر ذلك الموازين والمعادلات، وليصبح الفن مُلَغما بالمخاوف والريبة، كذا الفعل الإبداعي والممارسة التشكيلية، ولا مبالغة في القول بأن عالما جديدا قد يتشكل مع حلول هذه الجائحة، كما سيترافق مع ظهوره فن جديد، فن قد لن تُجدِي محاولاتنا لفهمه وتسييره بمفاهيم ووسائط عالم ما قبل الجائحة، مما قد يفتح المجال لنشوء سياسة فنية وممارسة إبداعية تتجاوز السائد والمعمول به الحين وقد يشمل هذا التغيير حتى طرق الإنجاز وإستراتيجيات العرض ومبادئ التلقي، لنخاله معنى من معاني إعادة الخلق للأشياء التي لن تعود كما كانت عليه، مقابل التمهيد لولادات جديدة آخذ في التكون تدريجيا، سنعرف من خلالها نمطا تواصليا مغايرا وشكلا مستحدثا من الترابط والتعايش قد يطال حتى الثوابت والبديهيات، لنعيش أطوار وثبات كبرى وقفزات نوعية تتيح لنا أن نتغير عما نحن عليه، ولعل ما نعيشه اليوم قد غدا بؤرة السؤال ومدار السجال، سواء في المجال الفني أو في مجالات أخرى، ومن وجهة نظري المتواضعة كفنانة تشكيلية، وما أنا عليه في فكري كباحثة أكاديمية، أعتبر هذا الوباء الشاغل، من الحين فصاعدا بمثابة إمكان جديد وفرصة فريدة بقدر ماهو تحدٍ، أو أزمة أو مشكلة، إمكان يفتح حيزا مغاير علينا قد يدفعنا
لتأمل الوجود وتقديس الحياة، لنعيش عبره إنقلابا وجوديا يتغير من خلاله سير العالم بتشعباته على ما كان يسير عليه حتى الآن، وقد نسجل على خلفية ذلك بوادر ميلاد حضارة جديدة تتغير معها قواعد اللعبة ويتبدل معها وجه الحياة والروابط بين البشر وحتى سلم القيم، فنعيد إثرها ترتيب الضرورات والأولويات والتصورات الأزلية، وهنا لا نتقصد عملية نفي للسالف بقدر ما نستهدف فعل إعادة البناء عليه لكي لا نزداد في خضم هذا الجمود عجزا وتراجعا، فتخالنا في سباق مع الظاهرة والحدث، وقد يكون هذا السباق مهمة ضرورية وجُهدا حثيثا ننخرط من خلاله في مشاريع التغيير التي تطال العقليات بقدر ما تطال البنَى المجتمعية سواء على صعيد الوقائع أو على صعيد الأفكار، ولتتغير إثرها جغرافيا الكون، ومن هنا فإن الفن معني بمسألة التغيير ولا يسعه إلا أن يكسر دائرة الجمود التي يعيشها الحين محاولا الخروج من قوقعة الداء، كسبيل لإستجلاء الإغناء والتجديد بعيدا عن أسوار عُصابه المستحكم.
وفي جميع الأحوال وأيا كان المآل، وبقدر ما سيتشرع المنظور المستقبلي بالمجهول، مُتَرَعًا بالآمال أو مشحونا بالمخاوف، وإنطلاقا من هذه القراءات المعززة لمشروعية أكبر للتساؤلات والمحرضة أكثر للمجادلات حول مصير الفن بعد هذه الأزمة، نقر بحتمية أن الفن بأدواره التنويرية سَيَتَغَيَرُ وسَيُغَيِرُ، وتلك هي المفارقة، فلا مراء غدا أن فنوننا ستتغير، من حيث نشاء أو لا نشاء، فَنُ ما بعد الوباء، سَيَتَغَيَرُ منطقا ومنهجا، وسيلة وتقنية، فعلا ومعاملة، مهمةٌ وغاية، وسَيُغَيِرُ من قواعده المتداولة سالفا محاولا بحلته الجديدة إعادة رسم خارطة المشهد الإبداعي ولما لا قد يتحول فعلا للمجابهة والمقاومة، وعلى نحو قد يحرض على صناعة الحياة وإستدراج حلاوتها من جديد بأن نمارس تفاصيلها كفن من الفنون، قد نستجلي الأمل، وقد ينُجمل الوقائع ونُزين بالفن الحقائق، ولا يعني ذلك ومن واجهة أخرى تبسيطا منا للأمور أو تهميش للحدث وتقليلا من قيمته وأهميته، بقدر ما هي علاقة يقين منا بتضارب درجات الصدمة والمواجهة النابعة من تعدد وجوهه المتراوحة بين الإيجابي منها والسلبي، ولعلها حقيقة لا مراء فيها، لعل هذه الصدمة أحوج ما تحتاج إليه الإنسانية اليوم، فقد يكون فننا الآتي بدوائره المتشعبة ودون إستثناء مجال من مجالاته، فرصة لإعادة النظر وإعادة التفكير، فالعيب والعلة ليست دوما نابعة مما يصيبنا أو نعيشه من وقائع، لعلها بالأحرى كامنة في ذواتنا، في روحانياتنا ومنطق فكرنا، فالصدمة تتم داخليا وبشكل مخصوص عند حدوث الأزمة ووقوع المأزق وينكشف العجز ويليه القصور، ولتشكل الأزمة الجارية بذلك دفعا نحو التحرك والتجديد
بإعادة النظر في الثوابت والأصول، الأهواء والرغبات، تجديد يتعدى التقنيات والوسائل، لكي يطال المبادئ، الأهداف والمقاصد، الأفكار والنظريات والمذاهب، ولا تعد هذه المسألة مجرد إقتصارٍ على الميدان الفني، لتطال كل المجالات وتبلغ حتى المستوى الوجودي للذوات، فتضعنا بذلك موضع مساءلة علاقة الإنسان بذاته وبالوجود في خضم واقعة ستبقى ماثلة للأزل في الأذهان.