رسالة مفتوحة إلى السيد رئيس الحكومة

لعلّك لا تعرفني أو قد تكون نَسيتني. وهذا لا يهمّ. المهمّ عندي أنّي أنا أعرفك، وهذا يكفي وزيادة. أعرفك لوجه الله، لا لأنّ المحادثات في دار الضيافة جعلتك شهيراً.

ولا لأنّ حضرة الكوفيد التاسع عشر جعلك معنا باستمرار، ننتظر ما ستتّخذ من قرارات بشأن الحجر الصحّي وحظر التجوّل والاستجداء والأكمّة وتوفير مواد الغذاء والتكرّم على الفقراء، وهلمّ جرّا. وإنّما لأنّ الصّدفة جمعتْ بينك وبيني يوماً، ولم تكن إذ ذاك رئيساً للحكومة بل وزيراً للسياحة. فاستشرتني في موضوع عَرَضَ لك وهو من اختصاصي. فقدّمتُ لك فيه رأيي بوضوح وجلاء. وأخذتَ برأيي مشكوراً. فوفّرتَ بذلك على وزارة السياحة مبلغاً ماليًّا قدره ستّون ألف دينار كانت ستُدفع لغير صاحب حقّ طالب به باطلاً. وقد أعجبني منك ذلك. وشعرتُ بالفخر لأنّ استشارتي كان

ت نافعة. ولعلّك نَسيتَ ذلك. ولا أريد أنْ أذكّرك هنا بالحادثة على الملإ، ولا بفحوى الاستشارة، لأنّ فيها أطرافاً ضربنا على أيديها، ولا أريد أنّ أُشهّر بها. وسأعود إلى هذه الاستشارة بعد الفقرة اللاحقة.

وقد كثُر هذه الأيام الحديث في الاستشارات والمستشارين، وسرّب الساسة وذوو النوايا الفاسدة الأخبار ليثبتوا أنّك عيّنتَ المستشارين دون حساب. وخرج علينا وزراؤك يقولون إنّ ذلك لم يتمّ بعدُ، وهو من باب التسريب، وإنّ التسميات الرسمية تصدر بالرائد الرسمي، فانتظروها. وبيّن لنا المختصّون في الإعلام والسياسة أنّ أولئك المستشارين الذين عيّنتهم أو ستُعيّن، كانوا من ذوي السوابق في عدم أداء الأمانات، وقد ضربوا عرض الحائط بالقوانين والتراتيب، وتهرّبوا من الضرائب، وهرّجوا كما شاؤوا في الإعلام دون رقيب. وتكلّم المحلّلون في هذه التعيينات وأوقفونا على ما فيها من خرق لمقولات الوضوح والشفافية والعدالة التي اتّخذتَها شعاراً. وأوقفونا على أنّك أصبحتَ، معاذَ الله، تَبعاً لحزب الأحزاب، الحاكم بأمر الله. وأكّدوا في كلّ منبر أنّك استجديْتنا فاستجبنا للاستجداء وقدّمنا ما في وسعنا، وإنْ في ظلّ الخصاصة وضيق الحال. وأكّدوا أيضاً أنّك اقتطعتَ من رواتبنا ما شئتَ، وقلتَ كان ذلك منّا هبةً وتطوّعاً، فقبلنا بذلك طوعاً، وقلنا ما قلتَ، حبّا في الوطن وضرباً للوباء. ثمّ بذّرتَ ذلك في سبيل الاستشارات الفاسدة.

إشترك في النسخة الرقمية للمغرب

اشترك في النسخة الرقمية للمغرب ابتداء من 25 د

وقد قام أهل الدراية بالحساب والاقتصاد بوضع القوائم المالية في ما سينجرّ عن هذه التعيينات من تكاليف في الأجور والمنح، والسيارات والسوّاق، والمكاتب والكاتبات، والمساعدين والمساعدات، ومواد التنظيف والصحّة، وأشياء أخرى لا يصلح المقام لذكرها، فبلغت الاعتمادات المرصودة والمزمع صرفها في هذا الغرض أموالاً طائلة ونسبة كبيرة ممّا استجديْتَ منّا.
ولمّا رأيتُ هذه المبالغ من الأموال الطائلة، وهذه الامتيازات بلا عدّ أو حساب، من أجل كسب ودّ المستشارين ليجودوا عليك بالاستشارة، رأيتُ أنّك هضمتَ حقّي أمسِ ولم تدفع لي ثمن الاستشارة التي قدّمتُ إليك، ولم تُمكّنّي من الامتيازات المصاحبة.

ونظراً إلى أنّ النظام الديمقراطي الذي فَرضتَه علينا يقتضي تواصل الدولة وإنْ في ظلّ تغيير الحكومات، فإنّي أعتبر أنّ حقّي ما زال قائما، وأنّ عليك أنْ تدفع لي اليوم ما لم تدفع لي أمْسِ. فما ضرّ لو دفعتَ لي الآن مُستحقّاتي! ونظراً إلى أنّ الدَّيْن مضى عليه قرابة عشر سنوات كاملة، فإنّك مطلوب لديّ بدفع الفائض أيضاً. وهذا هامّ في حدّ ذاته. وسأرسل إليك الحساب سرًّا حتى لا يعرف الناس كم سأتقاضىى منك، وحتى لا يُسرع إليّ المراقبون في القباضة لأخذ قسط من المحصول الخام.

أمّا إذا ثبتَ لديك أنّ الظرف لا يسمح بهذا، وأنّ عليك الاهتمام بأمر حضرة الكوفيد التاسع عشر دون غيره، وأنّ ما سأتقاضاه على الاستشارة السابقة سيُسبّب عجزاً في ميزانية الدولة المرصودة كلّها لمكافحة الوباء، فارصُدْ جميع مستحقّاتي في الاستشارة الماضية لمكافحة الوباء، واجعل ذلك تطوّعاً منّي، وسأشيع في الناس أنّي تنازلتُ عن مُستحقّاتي بالرضى التامّ وعن طيبة خاطر. ثمّ، ونظراً إلى الموقف الحَرِج الذي وضعوك فيه بسبب الاستشارات والمستشارين، وحتى تتجنّد بالكلّية للحرب على هذا الوباء الخبيث، أعلمك أنّي أجنّد نفسي مستشاراً لديْك، وأجنّد معي عشرة مستشارين آخرين لننهض بالاستشارة في رئاسة الحكومة الموقّرة، من دون مقابل ومن غير مكافأة. ولا حَرَجَ في ذلك فقد فعلتُ ذلك أمسِ، والظرف يتطلّب منّا اليوم التضحيّات. فسَرّحْ جميع المستشارين لديك، فلا حاجة لك بهم. ولا تظنّنَّ أنّني والمستشارين الذين اخترتُهم لا نصلح للخدمة. لا تظنّنَّ ذلك أرجوك، ولا تضحك عليّ.

فنحن لنا باعٌ وذراعٌ في الاستشارات، ونُغطّي جميع الاختصاصات التي تكون رئاسة الحكومة في حاجة إلى استشارة فيها، مثل الدين الذي تتطاول به عليك أحزاب الإسلام السياسي، ونحن نعرف الدين وقلّة الدين ونرشد إلى الخلاص من سيطرة الأحزاب، ومثل الثقافة المتروكة ولا يهتمّ بأمرها أحد، ونحن نهتمّ بها ونُعيرها أهمّية بالغة، ومثل التعليم الذي سيطرت عليه النقابات ونحن نُرشد إلى كيفيّة الاستقلال عنها، ومثل الإعلام الذي لا يرحم، والأكمّة التي تُستعمل لحبس النفس والصوت، وأصحاب الأموال الذين لا يؤدّون الضريبة، والوزراء الذين لا يحترمون القانون، والنواب الذين يجهلون التراتيب، ولنا خبرة طويلة في كتابة الخُطب الموجزة البليغة، وقدرة عالية على الإخراج وكيفية الكلام والكوتشينغ. وهلمّ جرّا.

إذا صادف أنْ قرأ المستشارون لديك في قسم الإعلام هذه الرسالة، ورفعوا إليك بشأنها تقريراً وشيئاً من فحواها بتحريف، فلا تَقسُ عليّ، وقُل لهم: إنّه كاتبٌ ليس غيرُ، وهو مثل الكتّاب ذو هذيان يستعمله للمتعة.

ولكم سديد النظر وفائق الاحترام، ودمتم ذخراً للوطن.

بقلم: وحيد السعفي

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115