أن تُغيِّر في تقنياتك بحكم تغيُّر المحيط الذي تعيش فيه. أن تتفاعل مع ما قد يُغيِّر حياتك. وتلك شروط الإبداعية عموما.
سعيت أن يُترجِم هذا المعرض الافتراضي الثلاثي الابعاد بعنوان لمسة مُميتة او لمس مُميت، هذه الخصوصية للممارسة التّشكيلية. فبحكم الحضْر الصحِّي الذي فرضه وباء كورونا كوفيت 19 على الجميع، تخلَّيت على التَّنقل الى مرسمي للعمل فيه، وجلست في المقابل في منزلي أمام الحاسوب، حيث تحوَّلت رسومي ذات التَّأثيرات التَّشكيلية المادَّوية الملمسية، إلى ظاهر رقمي افتراضي يستوحي من الرّاهن أشكاله وتعبيراته. راهن، انْتقَلَت فيه مصافحةُ الآخر حيّا أو ميِّتا، إلى حركة قاتلة.
وتعود تجربتي في الرُّسوم الرَّقمية إلى أربع سنوات، اكتشفتها يوما وأنا أمام الحاسوب أسلِّي نفسي برسم بعض الخربشات باستعمال برمجية «بانت بروش». خربشات أفضت إلى رسوم خطية ذات شخوص غرائبية تميَّزت باعوجاجاتها وتداخلاتها وبخطوطها المُرتعشة المحزَّزة. وهي تكشف عن طاقة تعبيرية سعيت الى تجسيمها في مجموعة من رسوم رقمية انجزتها واكتفيت بنشر بعضها على صفحتي في الفاس بوك.
تكشف الرسوم الرقمية عن وضعية مختلفة تمام الاختلاف عن وضعية المرسم، حيث نكتشف فيها أدوات وتمشٍّ وانشائية جديدة. تتغيّر الأدوات في الرسم التقليدي لتتحول في الرسم الرقمي الى فأرة وجملة من الأقراص التي علينا الضّغط عليها للتّحكم في النّتيجة المرجوّة بالاعتماد على برمجيات مختلفة ومناسبة.
وتمثِّل هذه الرسوم الرّقمية وعددها عشرون، التي يتضمَّنُها هذا المعرض الإفتراضي الثلاثي الأبعاد التي سعيت الى نشرها تباعا على صفحتي في الفاس بوك منذ الشروع في إنجازها، مواصلة لتجاربي السابقة في هذا المجال. وهي تنطلق أيضا من رسوم خطّية، مقارنة مع رسومي على القماشة التي تتأسّس على اللون والخامة وتستوحي كما سبق القول من الراهن ابعاده. فلقد انطَلَقْتُ أساسا من التركيز على شكل خلية الكورونا كوفيت 19 التي سعيت الى اختزالها وإبراز طابعها الكروي المُشوَّك وجعلت من هذه الخاصية طابعا مُؤثِّرا على بقية الاشكال المتواجدة في العمل الفني وخصوصا على أشكال الشّخوص الآدمية التي تصبح بدورها مكوّرَة ومُشوّكَة. شخوص مختزلة ذات الأيادي الخطية الممتدة المتلامسة، والمعبِّرة عن وضعيات تراجيدية، قد تفكرنا بوجوه غويا في لوحاته السوداء أو بشخوص بيكاسو في لوحته غرنيكا والتي تثير فينا الشّعور بالفزع والهلع وتحملنا الى وضعيات مأساوية.
تصبح هذه الاشكال الخطية المختزلة أساسية ومميزة لهذه السلسلة من رسومي الرقمية ومنطلق معناها. وهي تتفاعل فيما بينها وتتغير وتنتقل لتأخذ اشكالا مختلفة يفرضها الموضوع وتؤكدها سيرورة البحث.
وقد ركزت في الرسوم الأولى من هذه السلسلة على شخوص تسبح تائهة في عالمها الخارجي، لتتحول في مرحلة ثانية وبطريقة متدرِّجة الى داخل الفضاء المجهري، أي داخل دائرة الخليّة المغلقة، حيث تصبح سجينة ومتراكمة ومروِّعة.
وإن يسبق الرّسم الخطِّي اللّون في رسومي الرّقمية، فإن ذلك لا يُنقص قيمة هذا الأخير وأهميته. فالألوان اللامتناهية التي تُقدِّمها لوحة ألوان الحاسوب والتي أمرِّرها على المساحات التي تُجهِّزها الخطوط، تفضي وفق مراحلٍ وتقنياتٍ متتاليةٍ ومتراكمةٍ الى تأثيرات قادرة على تفاعلٍ وتداخلٍ كلِّي بينها وبين الرسوم الخطية. تفاعلات، لا تخلوا من تنوعات لا متوقعة ومعبرة والتي أسعى الى توظيفها في بحثي التشكيلي.
وانت ترسم رقميا، لست رهين اللمسة الأولى كما هو في الرسم التقليدي ذا التّمشي الخطِّي. فالعودة الى نقطة سابقة في السّياق الإبداعي ممكنة. بالإضافة الى ان الرّبط بين الحلول المختلفة لنفس العمل قادر أن يفضي إلى جديد لا متوقع.
إن المجــــال القادر أن تفتحه أقراص الحاسـوب ثري ومُطِل على عالم الممكن. عالم تلج فيه بسرعة فائقة لتكتشف ما يمكن ان يكتنزه من امكانات تشكيلية يستحيل اكتشافها بنفس السرعة والتنوع والثراء في الممارسة التقليدية للرسم.
من الواضح أن الفنان قد استخدم على مدار التاريخ والأزمنة كل الاكتشافات التقنية والتكنولوجية والعلمية ليجعل منها أدوات عمل تفتح له سبلا إبداعية جديدة. وهو ما ينطبق على المجال الرقمي الذي يُعتبر إضافة كبيرة للفنان والتي لا تزال تبهرنا بإمكانياتها اللامحدودة.
وصحيح ان البرمجيات تقدِّم لنا تأثيرات جاهزة قد يُسَرُّ لها البعض، الا أنها تفضي على هذا النحو إلى نتائج متكرِّرة وآلية ان لم نخضعها الى تمشٍّ فني تعبيري خصوصي ومبدع. فالفنان يتجاوز التأثيرات التشكيلية الأولية المُقدّمة في الحاسوب، لينفتح على الممكن، محوِّلا هذه التأثيرات الى منطلق بحثي ضمن مغامرة متفرِّدة يكتشف فيها تقنياته الخاصة به وتأثيرات تشكيلية تتواءم مع الأبعاد المفهومية والإسطيتيقية لعمله الفني.
ولا شك انه ليس هنالك اشكال مبدعة خارج دائرة المعنى. ان مغامرة الفنان تستنير بالامتوقع وبالصُّدفة، وفي الآونة نفسها بالفكر والمقارنة والاستنتاج. وهو ما يحيلنا إلى العمل الفني المتدفِّق الحي، الذي يصبح جامعا للصدفة والتحكم، للتلقائية والبناء، للتيه وللفكر وللروحي والعقلاني. وإنَّ الإسطيتيقا والإنشائية تتعاملان بطريقة متداخلـــة. فالفعل التشكــيلي والحكم الإسطيتيقي متداخلان. فالمغامرة التشكيلية تفـــرض مغامــرة إسطيتيقية. والتســاؤل الإسطيتيقي، هو جزء هام وضمني للفعل الإبداعي أو هو تواصل طبيعي له.
وان مثَّلت لي هذه التجربة في مجال الرسم الرقمي إضافة جديدة اعتز بها في مسيرتي الفنية، فإنها أيضا مواصلة لما سبق ان أنجزته ولا زلت انجزه في رسومي المادّوية. فتعاملي مع الدّائرة ليس جديدا وكذلك تعاملي مع الداخل والخارج ومع الميكروكوزم والماكروكوزم، اي مع العالم الصغير والعالم الكبير.
إن هذا المعرض الإفتراضي الذي مكَّنني من تحويل عزلتي الى منطلقٍ لغزو فضاءٍ رحب، حيث تمكَّنتُ من التواصل مع عدد لا متناهي من المبحرين في عالم الانترنات باختلاف جنسياتهم، مخترقا بذلك حدود الجغرافيا، يُثبت ان فضاء الانترنات الذي أصبح مُتاحا للجميع، هو الفضاءُ الأكثرَ ديمقراطية عرفها البشر. فلم يعد الفنان التشكيلي رهين قاعة العرض القادرة بمفردها على التّعريف بأعماله. وما نحن نلاحظه اليوم من ظهور منصات افتراضية تهتم بتسويق الاعمال الفنية سواء على الصعيد الوطني أو الدولي، ليس إلا ترجمة عن هذه النُّقلة النّوعية.
ان هذا الوباء الذي تعيشه البشرية قاطبة لن يوقف مسيرتها مادام الابداع ينموا ويتجذر في أصعب مراحلها لينتج الحياة. انه حصانتها.
تتغيَّر أعمالُنا الفنية على مرِّ التجارب، تتعدَّد أشكالها وتتكامل، لتُبْني بذلك على طول الطريق أفكارُنا انطلاقا من حالاتنا الطارئة ومن شكوكنا وآلامنا.
كل أعمالنا الفنية مختلفة، إلا أنها أساسا واحدة.