حديث الفرد: قريبا، ألقى وجه ربّي.. ماذا عساني أقول لربّي ؟

قريبا ألقي وجه ربّي. لست الوحيد في الأرض ممّن سوف يلقى وجه ربّي. كلّ نفس «ذائقة الموت». هذه حقيقة محتّمة. تلك هي مأساة الإنسان

منذ بعث في الأرض يحيا... في ما مضى، يوم شدّني السرطان في الأحشاء، كدت أذوق الموت. كدت أمشي إلى جوار ربّي. أيّامها اعتقدت أنّي انتهيت وحانت ساعة الوداع. نظرت في نفسي فوجدتها في يوم الحشر، وسط الخلق. وجهيّ مكفهرّ. كتابي في يميني. أنتظر جزاء ربّي. أيّامها، عشت أيّاما مرّة، نحسا. كنت في هلع، في فزع، نهارا وليلا. أرى الموت في كلّ وجه. أتذوّق العذاب في كلّ لحظة.

بعد المرض الخبيث وما كان من صراع وعلاج، ها أنا أعود لأحيا، لفترة أخرى. هذا ما قاله الأطبّاء بعد عمليّة جراحيّة معقّدة. ما أن انتهيت من المرض، نسيت وجه ربّي والسماء العليا وما كان من قبر وحشر. في الحين، عدت إلى الحياة الدنيا. بسرعة، فيها انغمست. ها أنا أحيا. ها أنا أنعم، أمرح، أتبختر، أمشي في الأرض مزهوّا. أتطلّع إلى ما هو أبقى. أحثّ الزمن. أسعى مع الناس. ألهو. أعبث. أنظر في الأفق. عدت إلى كبريائي وصلفي. أتكلّم بصوت مرتفع. أنهر. أصدّ. عادت إليّ شؤوني. ككلّ حيّ، ها أنا أحسب، أناور، أكذب، أشتهي النساء وما كان فيهنّ من لحم ونهد، أمشي إلى الأسواق، إلى البنوك، إلى المقهى. كلّ يوم، أعدّ ما جمعت من ذهب وفضّة. أقتصد. أخادع. أضارب. أكتب في مواضيع مختلفة. بسرعة فائقة، نسيت الموت والقبر وما كان من نار وجنّة. انتهى كلّ هذا في يوم وليلة. أصبح المرض الخبيث أمرا مقضيّا. طويت الصفحة. ها هو الأفق، في عينيّ، يتفتّح. ها هي الحياة ناضرة، بهيّة. أستمع وكلّي طرب لأم ّ كلثوم تغنّي إليّ: «حبيبي يسعد أوقاتك». ما أجمل الحياة الدنيا لمّا تكون في صحّة، تسعى...

أنا اليوم شفيت من المرض الخبيث. أنا اليوم عبد صحيح. غير ناقص، غير معتلّ. أعود إلى الدنيا. على الدنيا، أعضّ بأسناني، بكلّ قوّة. لا أفرّط في شيء. أغنم من لذّاتها ما استطعت. آخذ ما كان حلالا وما كان محرّما. انطلقت في رأسي مشاريع مختلفة. في يوم قريب، أذهب إلى كندا لألتقي بمحمّد وخديجة وألهو بما كان لي من أحفاد رضّع. في فصل الشتاء، يجب أن أزرع الأرض زياتين وعنبا. سوف أشتري مشاتل بهيّة. أغرسها في غبار طريّ. أسقيها بماء البئر. بعد سنة أو سنتين، سوف تعطي زياتيني زيتا بلّوريّا. لعلّه البحر يعطي للحبوب طعما خصوصيّا. لا أدري. لا يهمّ. في الصيف، سوف أشتري سياجا. كثر اللصوص بعد الثورة. لا حلّ لي غير الرفع في الأسوار وزرع الشوك وحطّ سياج حديديّ...
  
أنا حقّا عبد محظوظ. ها هي الأيّام تهبني عمرا جديدا. ها هو الطبّ يقتلع من الأحشاء مرضا خبيثا. أنا اليوم أعود لأحيا. أحيانا، تحملني الذكرى. أتذكّر من فارق الدنيا من أهلي وصحبي. قتل المرض الخبيث الكثير من صحبي... هذا مختار أمامي. يمشي. يتبختر. في انشراح وزهو. كان مختار محبّا للحياة. دوما له صاحبة معها يشرب رضابا وخمرا. لا يبالي بما أصابه من مرض. دوما يضحك. في زهو، يحكي نكتة. مختار له صوت جميل، قويّ. هو يغنّي فأعيد من بعده ما غنّى. أهلكه المرض. قتله المرض الخبيث رغم ما أتى من فحوص وسعي. انتقل مختار إلى السماء العليا. بكيت فراقه أيّاما، حرقة... هذا المهدي من سيدي بوزيد. رجل أسمر الوجه، كريم، مسالم. دوما يبتسم. كان فخورا بنفسه، معتزّا بابنيه. عن ابنيه دوما يتحدّث. «ذهب ابني للدراسة في فرنسا. نجح ابني بمعدّل مهمّ. يشتغل ابني في مؤسّسة أجنبيّة. لابني أجر معتبر...» قصف المرض الخبيث المهدي بعد صراع طال واستمرّ. نزعه من طفليه قهرا. انتهى المهدي وطويت ما كان لنا من ذكريّات مشتركة. امّحت ابتسامته. راح المهدي. بكيت فراقه مدّة... هذا عبد الرحمان من العاصمة. رجل طويل القدّ. رقيق

الأصابع. أحمر الوجه. له لحية بيضاء كثّة. هو فنّان يرسم وأحيانا يصنع تماثيل بهيّة. يحبّ عبد الرحمان النبيذ ويبغض الناس المحافظين ومن مشى خلفهم في الأرض. في بيته، ألقاه يزرع وردة. يقرأ جريدة أو كتابا فرنسيّا. يقرأ عبد الرحمان بانتظام مقالاتي في جريدة «المغرب». هو صاحبي ويتّبع ما أنسج من فكر. كان يهاتفني ليقول رأيه. هو أستاذ صعب. إن أعجبه المقال شكرني وإن لم يرق له، انتقدني بحرص، بلطف. خطف المرض الخبيث عبد الرحّمان يوما. ها هو في فراشه ممدّد. ينتظر. وجهه مصفرّ. في عينيه إرهاق. في صوته بحّة. قصف الموت صاحبي. ها أنا خلف نعشه في المقبرة. أبكيه وكلّيّ حرقة. انتهى عبد الرحمان وما كان بيننا من أنس ومودّة... هذا صالح من باجة وكان صالح ظاهرة خارقة، مميّزة. كنت أحبّ صليح وما يأتيه صليح من مجون وجنون وخروج عن الصفّ. لا وجود لمثل صليح في الأرض. هو طرفة منفردة. يحبّ صاحبي الحياة والثورة حبّا جمّا. يعشق النساء والخمر عشقا كثيرا. له فكر مشاكس ونظر حارق وقهقهة. لا تهمّه الدنيا ولا الشغل. بهيميّا، ظلّ في الهامش، يحيا. لا يحبّ صليح النواميس ولا ماكان بين الناس من سنن وعادات

تجري. قنوع. لا يشغل فكره همّ ولا يعرف قلبه كدر. يقضي الأيّام كما تأتي وفي العشيّة، يعاقر خمره، مزهوّا. أهلك المرض الخبيث صاحبي. قتله غدرا وبين يديه كأسه. رحل صليح ولم أره. لم أشيّع جثمانه. وحيدا، بكيته. وحيدا، تذكّرت ما كان له من طلعات وما كان لنا من حياة بهيّة، متقلّبة... أمّا شكري وهو أستاذ زميل فكان رجلا مجتهدا، نشيطا. هو رجل جدّيّ. في كدّ متّصل. دوما يسعى. لشكري طموحات لا تنتهي. تولّى عديد المناصب. دوما حريص. لشكري قول صائب وكتابات بهيّة. هو دوما ينتقد أصحاب الفكر الظلاميّ، أولائك الذين طلعوا كالدود من تحت الأرض. هؤلاء الذين أخذوا الحكم واستبدّوا. كنت أقرأ ما يكتبه شكري في الشبكة وأشكره على ما أتى من نظر حصيف ومن تحليل مميّز. منذ سنين، صعقه سرطان مثل الذي صعقني. ظننته شفيّ مثلي. منذ أشهر، تعكّرت صحّته. قصفه المرض. فارق صاحبي الحياة الدنيا دون أن أزوره. انتهى شكري ولم يتمم مسيرته. مات كهلا بهيّا وفي يده قلم صنديد. غادر الحياة وترك من خلفه تونس بين أسنان الضبع. آلمني موته. بكيته. عدت أقرأ كتاباته. في كتاباته رأيت في عينيه ضياء وحرقة...
  
رحل الكثير من أهلي ومن صحبي. غادروا الدنيا. التحقوا بالسماء العليا. قريبا، أنا أيضا أغادر الحياة الدنيا. قريبا، أمشي الى السماء العليا. لا يهم. فليكن ما كان محتّما. فالكلّ ميّت، يوما. الكلّ سينتهي من الحياة الدنيا... يوم أموت وألتحق بجوار ربّي، ماذا عساني أقول لربّي؟ ذاك هو سؤالي. يشدّني السؤال منذ ايّام عدّة. لا ألقى للسؤال جوابا. هذا ليس بسؤال. يوم تلتحق بجوار ربّك، لن تقول شيئا ولا فائدة من قولك ترجى. لا ينفع ما سوف تقول ولن يغيّر قولك أمرا. هي السماء، لا تسمع كلاما ولا تقول قولا. هي السماء صمّاء، لا تصغي. عمياء، لا ترى... أفلا تدري ولا تتبيّن؟ دعك من السماء فللسماء شؤون أخرى. أنظر في نفسك، في الأرض فهي لك أبقى وأنفع. إن أردت قولا فقله إلى الناس، إلى الأحياء، من حولك. لعلّهم يسمعون. لعلّهم يتبيّنون..

ماذا عساني أقول إلى الناس من حولي؟ هل سوف ينتبه الناس إلى قولي؟ لا أعتقد. هموم الناس أخرى. ما سوف أقوله ليس وصيّة ولا هو إرشاد ولا هو نصح. هو قول عابر لانسان عابر. قريبا يغادر الدنيا. ماذا عساني أقول للأحياء حولي؟

أقول إن الحياة جميلة، حلوة. فيها فاكهة ولذّات وخيرات سبعة. فيها خيال ونعيم وجنس. فيها بشر مختلف، جاء من كلّ فكر ولون. هي الدنيا قوس قزح. ألوانها بهيّة، شتّى. لأنّها جميلة، حلوة، يجب أن نحبّ الحياة الدنيا ونغنم منها ما استطعنا ونسعى لقطف ما طاب فيها ولذّ. من أجل الدنيا، يجب أن نكدّ ونسعى. أن ننهض فجرا. دون تكالب، دون تهافت، يجب أن نعضّ بقوّة على شفتيها. أن لا نضيّع منها شيئا. العمر قصير. الأيّام تجري. لا تترك إلى الغد ما أمكن اليوم. الحياة لحظات تلوي. فلا تقل: غدا أحيا ولا تقل: الآخرة خير وأبقى. كلّ هذا ظنون وإن ظننته لسوف تدرك يوم لا ينفع ادراك وتندم ندما بليغا...

العمر قصير فلا مضيعة للأيّام ولا لهو في ما لا ينفع ويسرّ. غاية الإنسان هي تحقيق سعادته في الأرض. كلّ جهد، كلّ بذل، كلّ عمل، مبتغاه العيش السعيد في الدنيا. تكون السعادة لمّا ينشرح الفؤاد ويفعم رضا وهناء ومسرّة. لمّا يعمّ النعيم وينتهي الشقاء والنكد. لمّا تنجز ما ارتأيت من لذّات وتأخذ نصيبك وترضى. ما كان المال هو السبيل للحياة ولا النفوذ ولا العبادة ولا التقوى. السعادة هي أن لا تيأس ولا تخاف من الدنيا، من الموت المترصّد ولا من الآخرة وما فيها من حساب وحشر. هي أن تأتي ما تحبّ من لذّات مختلفة.

كلّ فرد بعث في الأرض ليتدبّر شأنه حتّى يسعد في الأرض. لكلّ نحوه وسيره. لا أحد على الآخر بمسيطر. خلق الإنسان حرّا، ليعيش عيشه، لينظر ويهنأ. الإنسان سعي. والسعي رحيل في الأرض. بالرحيل تتأسّس. تلتقي مع الأخر المختلف. ترى. تتعلّم. لا حياة لمن غلّق فؤاده، لمن لم ير العالم يتشكّل والبشر يسري. بعضهم، في ما أرى، يكلّف نفسه ما لا تقدر.

تراه في كمد، في تعبّد، يرتجف من السماء خوفا، من العوز ومن الشوائب الأخرى. بعضهم يعتقد أنّه مكلّف بمهمّة، أنّه حامل برسالة ربّانيّة. تراه في جدّ، يناضل من أجل قضيّة، في حرص، يصارع الخصوم، في شقاء وكدح، أيّامه عذاب أزرق... الحياة يسر وليست عسرا فلا تكلّف نفسك إلا وسعها واعلم أن لا أحد بموكّل في الدنيا. الدنيا سراب. الحياة أيّام معدودة، تجري. فلا تترك الجدّ فيك يستبدّ ولا تعتقد أنّك بعثت في الأرض لأداء مهمّة عليّة أو أنّك صرّة الدنيا. أنت عابر سبيل ستلفّه الموت يوما. الحياة جنون وعبث. هي حصان أرعن. فلا تأخذها مأخذ الجدّ ولا تحسب لها حسابا. للعيش، يجب أن تترفّع عنها، أن لا تبالي بما تأتي وأن تعرض عنّ ترّهاتها المختلفة. فلا تغرق في أوحالها ولا تتلهّى بما لا ينفع عيشا. لا تعبأ وانشد اللهو والزهو وعاقر الخمر، إن شئت، واشرب رضابا، من شفاه ذكر أو أنثى، وامرح في الأرض طولا وعرضا... كذلك، ربّما، سوف تحيا.

انتهى

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115