برج بابل: الكورونا في الأحياء الشعبية ليست كما في سواها

يحتاج الناس إلى مزيد فهم ما يحوم حولهم بالشكل الذي يحتاجون فيه إلى إفهام الآخرين ما يحوم حولهم أيضا.

ومع هذا يتكلم البعض عن الدوافع التي تجعل مواطنين يخترقون الحجر الصحي الذي دعت إليه الدولة إثر نصيحة مؤكدة من الأطباء. وهم يتكلمون عن الدوافع لا ينسى هؤلاء وصم المخترقين بالوصم الذي يليق بذاك الذي تدفعه أنانيته إلى عدم التفكير في الآخرين. 

كورونا الأحياء الشعبية مختلفة عن سواها. واختلافها عن سواها دافع أكبر لمزيد فهم ما الذي يحدث ولماذا لا يلتزم سكان هذه الأحياء بتراتيب الحجر والحماية. تدفعنا هذه التساؤلات إلى ملاحظة الخلل الكبير في الخطة الاتصالية للدولة. لقد انبرى الجميع إلى التأكيد على ضرورة الالتزام بالبيوت ومع هذا ثمة حطاب اتهامي ينصب على الفئات الاجتماعية والأفراد غير الملتزمين. إنهم يودون كل تونس في وضع حجر صحي وكأن كل تونس سلة واحدة لا تنبني على فوارق ثقافية واقتصادية واجتماعية.

الرافضون للحجر الصحي وهم في الأغلب من الأحياء الشعبية المكتظة والمتوسطة لا يقدرون المخاطر كما يقدرها غيرهم. ولا يتفاعلون معها بنفس الطريقة كما يتفاعل معها آخرون. ولهم دوافعهم في ذلك. وهذا ما يصيب أي خطة اتصالية ويجعلها عاجزة إن لم تكن قادرة على إدراك خصوصيات الجهات التي تتوجه إليها بالخطاب. تعتمد الخطة الاتصالية في تونس وهي تواجه أزمة الكورونا على خطاب تحسيسي فيه الكثير من التحذير والعتاب وقد تصل مفردات الخطة إلى التوبيخ أحيانا. قد يعود هذا الخلل إلى أن اللجنة العليا العلمية التي تقترح الحلول إزاء هذا الوباء هي لجنة من الأطباء والسياسيين وبعض المساعدين دون غيرهم. ربّما فهموا أن الخطاب الطبي وحده على أهميته هو الكفيل وحده بأن يكون قوة اقتراح. ربما أيضا لا يدركون أن العلوم الإنسانية والاجتماعية هي الأخرى لها ما تعطيه خلال الأزمة وبعد الأزمة. إذ لا يمكن أن يكون التعاطي جديا مع أي أزمة دون إدراك تصورات الناس لهذه الأزمة، وهل يعتبرونها فعليا من ضمن المخاطر أو أنها لا ترتقي لذلك. وهذا ما يمكن أن تقدمه الدراسات الإنسانية والاجتماعية. بل الأكثر من ذلك حتى المعرفة الشعبية أو

الحس المشترك أو التجربة الاجتماعية يمكن لها أن تقدم معرفة لأي برنامج لمواجهة أزمة ما. وهذا ما يستوجب إدراكا فعليا لخطة اتصالية تأخذ في اعتبارها التصورات المختلفة للناس لهذه الجائحة والكيفيات التي يقرؤون بها علاقتهم بالأزمة و بتداعياتها المختلفة.
وفيما يتعلق بالأحياء الشعبية فإن رفضها أو ممانعتها القبول الصارم بالحجر الصحي الشامل محكوم بقراءة وبتأويل للأحداث وتقديرا لموقف ما من العملية. هناك في الأحياء الشعبية تُصاغ العلاقات البشرية وفق الحضور في الفضاء العام من عدمه. والمقصود هنا بالفضاء العام مدى مشاركة الناس في هذه الأحياء في الأنشطة المعتادة التي تقع في الشارع وفي الأزقة

وفي أمكنة التلاقي العديدة. هنا يقع رفض هامشية جديدة، أي وضعهم على هامش العلاقات الاجتماعية المعتادة. لأنهم وبكل بساطة غير مستعدين للتخلي عما يعطي معنى لوجودهم وهو في نظرهم أخطر من تداعيات الكورونا.

ولكن هناك وجه أخر لعلاقة هذه الأحياء الشعبية بالدولة. ففي الوقت الذي تدعو فيه الدولة إلى ما يسمى بالتباعد الاجتماعي وهو في الواقع تباعد جسدي بين الأفراد والمجموعات يُذكر متساكنو هذه الأحياء الشعبية بشكل آخر من التباعد ألا وهو التباعد المؤسساتي الذي يعني غياب الدولة وابتعادها عن هذه الأحياء بفقدان الخدمات الاجتماعية والخدمات الحيوية فيها، ثمة تلازم بين التباعدين الجسدي والمؤسساتي في ذهنية متساكني هذه الأحياء الشعبية. فكلما تقع الدعوة إلى الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي، يُذكر هؤلاء الدولة بتاريخها العريق في التباعد المؤسساتي وهو الذي يتجه إلى أن يكون تباعدا رمزيا يحرم هذه الأحياء ومتساكنيها من قيمة الاعتراف.

المخاطر التي تهددنا وهي عديدة لا تتمّ قراءتها وتأويلها بنفس المعنى وبنفس المضمون من طرف الفاعلين الاجتماعيين على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم. المخاطر هي بناء اجتماعي، هي أيضا تصورات يشكلها الناس على خلفية سياقات متشابكة، ولهذا لا يتعاملون معها بنفس الدرجة وبنفس الفهم وبنفس الوتيرة. وبما أنه لكلّ مخاطره فإنه من البديهي أن تكون الحلول لدرء هذه المخاطر متنوعة ومتفطنة لتعدّد السياقات وتنوعها.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115