برج بابل: الحجر الصحي الشامل في تونس: البيتُ ليس لساكنه

تمارس الدولة سيادتها على المواطنين وتحثهم بكل الأساليب الممكنة على الاعتكاف في بيوتهم والخروج منها عند الضرورات القصوى.

إلزام الناس ببيوتهم هو جزء من سيادة الدولة وجزء من العنف الشرعي الذي تمتلكه. وتمارس الدولة سيادتها بهذا الشكل عند استشعار الخطر، ويحصل هذا في الثورات أو الانتفاضات الاجتماعية الكبرى، وفي الغالب لا تدوم المسألة سوى مدة قصيرة تستعيد إثرها الدولة سيطرتها على مجرى الأمور. ولكن الدولة هذه المرة أمام مأزق فعلي، فكيف لها أن تجبر مواطنيها على الالتزام ببيوتهم والانضباط للحجر الصحي الشامل لمدّة قد تطول؟ المأزق الكبير أمام الدولة الآن هو عدم قدرتها على التوقع، سيطرة الدولة على الأمكنة وسيطرتها على الأزمنة هي من أسس قوتها ونفوذها و شرعيتها أيضا.
الدعوة إلى الحجر الصحي الشامل هو إجراء براغماتي مدفوع بمواقف طبيّة ترى أن مواجهة الكورونا لا تكون إلا بالانكفاء في المنازل لتجنب العدوى. على البراغماتية في هذا السياق أن تنجح في إبرام اتفاقيات ناجعة مع الثقافات المحلية ومع ظروف الناس ومع شخصياتهم وقدراتهم على التأقلم مع الوضعيات المستجدّة. وما نشاهده الآن في تونس في العلاقة مع الحجر الصحي الشامل هو قياس مدى قدرة التناول البراغماتي على إيجاد الحلول للوضعيات الشائكة التي نعيشها الآن. سـتُواجه هذه البراغماتية الطبيّة مسنودة من الدولة ومؤسساتها إشكاليات سوسيو- ثقافية مُعبّرا عنها من خلال الخرق الواضح لهذا الالتزام بالبقاء في البيوت.
بعيدا عن مقولات الوعي والغباء والاستهتار التي يتمّ عبرها قراءة ما يجري في تونس الآن، نعتقد أن أي إجراء بهذا الحجم سيقع تأويله بأشكال شتى. نحن نريد فقط أن نستكين إلى تأويل واحد هو التأويل الطبي. ولكن الأفراد وهم معنيون بهذا الإجراء الحاسم يقومون أيضا بقراءته وتأويله وربما بالتحايل عليه أو إيجاد صيغ توافقية له مع التأويل الطبي المسنود من الدولة. ولهذا من اللائق علميا وأخلاقيا أن نتساءل في الجانب الاخر عن التأويلات التي يقرأ من خلالها الذين لا يعيرون لإجراء الحجر الصحي الشامل أي احترام يُذكر.


من المفيد التذكير أن أغلب بلدان العالم قد دعت مواطنيها إلى الالتزام بمنازلهم ولكن درجة الالتزام والدعوة إليه ومراقبته تختلف من ثقافة إلى أخرى. في الصين مثلا وحتى في البلدان الآسيوية الأخرى وقع احترام الحجر الصحي بشكل كبير. ولكن الصينيين لم يكونوا يسكنون منازلهم فقط، إنهم متساكنون محترمون داخل عدسات الكاميرا، قابعين فيها وهي مبثوثة في كل مكان تترصّد كل حركاتهم وتُظهر كل سمات وجوههم. إن نظام الشرطة الرقمية في الصين كفيل لوحده بأن يفرض على الناس الالتزام بالحجر الصحي الشامل. عدسة لكل مواطن، تلك هي المقولة التي يسيّر بها النظام الصيني مواطنيه على كل الأصعدة وجاءت هذه الجائحة مناسبة لمزيد تدعيم هذا الاجراء الرقابي. ولكن في جلّ الأحوال لا يملك الصينيون والآسيويون عموما حساسية ضدّ المراقبة الإلكترونية مثلما هو الحال عند الأوربيين وهم الأكثر امتعاضا من أي تجاوز للحريات الشخصية.
أمام الوضعيات الشائكة يقوم الناس بقراءة مُجمل الفرضيات الممكنة التي تمكنهم من السيطرة على اللايقين الذي تُحدثه تعقيدات الوضع الذي يحاولون التعايش معه. يستعين الناس في هذه القراءات أو التأويلات بالكمّ الهائل من المعلومات التي يأخذونها من كل المصادر الممكنة وكذلك بتجاربهم السابقة إن كانت لهم مع وضعيات شائكة هي الأخرى. ويقومون إثر ذلك بتقدير الموقف المناسب الذي يُرضي تصورهم لذواتهم ولعلاقاتهم بمحيطهم الضيق. ولهذا لا يتفاعل الناس مع الحجر الصحي الشامل بكيفيات متشابهة. وحتى الاختراق الذي يقع فإنه خاضع للسياقات التي يتمّ فيها فعل الاختراق.
لقد أعاد الحجر الصحي الشامل الناس إلى بيوتهم، ولكنهم في الوقت ذاته غير مستعدين لسلوك جديد وبالتالي عليهم إثبات قدرتهم على التفاعل معه. الناس في الأحياء الشعبية المكتظة مثلا لا يسكنون منازلهم ولا بيوتهم. ولا تنطبق عليهم مقولة البيت لساكنه، ولا نعني هنا ملكية المنزل أو البيت، إنما نعني العلاقة الحميمية بين البيت وساكنه، ونعني العلاقة التي لها أثر رمزي إيجابي على من يسكن بيتا أو منزلا. ولهذا وعند الإحساس بغياب هذه الحميمة لأسباب مختلفة ومنها ضيق المكان، فإن هؤلاء يقضون أغلب أوقاتهم خارج عتبة البيت. الشارع أكثر حميمية لهم من المنزل، في الشارع وخصوصا شوارع الحيّ وأزقته، هناك تُصنع الروابط الاجتماعية وهناك يتمثل الفرد حياته وتجاربه ومع هذا التمثل يصعب عليه البقاء في المنزل.
يُصبح خرق الحجر الصحي الشامل في مثل هذه الأحياء الشعبية مرادفا لخطاب رافض لإجراءات الدولة وتعبيرا عن قلق كبير من الهامشية الاجتماعية والمجالية التي تعيشها. وكلما زدنا في الحجر وامتد في الزمن إلا وخرج هؤلاء المهمشون في الأحياء الشعبية المكتظة وهم أمام اختبار معيشي عسير. حينئذ يُصبح الكلام عن الوعي وعن الاستهتار مجرد عبث لا يليق بنا....

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115