فهل نحن بصدد صياغة حدود جديدة؟ هل هناك معنى لحدود أثبتت هشاشتها بمجرد فيروس عابر؟ وهل العولمة التي تتبجح دوما بأنها صانعة لحدود فوق سيادية قادرة الآن على التعامل مع الحدود الجديدة التي أنشأتها الكورونا فيروس؟
الحدود التي أعنيها ليست الحدود التي تصنعها المسافات فحسب، بل هي الحدود التي تبتكرها المخيلات وتشكل بها العلاقات الإنسانية في اتجاهات مختلفة. بإمكاننا تصور خارطة للخوف وأخرى للأمل. الخوف الآن معولم مثله مثل قطعة قماش أو أكلة بيتزا، ينتقل عبر القارات دون استئذان، يأتي عبر المطارات ولا يحتاج جواز سفر. خارطة المشاعر التي رسمها أحد المختصين في الجيوسياسة كانت في جزء منها خارطة للخوف. الخوف يسيطر على أوروبا وعلى الشمال الأمريكي. وكانت أسباب مخاوفه واضحة ومعلومة للجميع، جحافل المهاجرين القادمين من كل صوب، إرهابيون يتسللون أو يعيشون هناك، اقتصاد منكمش، تهرّم سكاني، تراجع فكرة الوحدة الأوروبية، وتراجع القيم الديمقراطية وصعود اليمين المتطرف. ولكن الكورونا أعطت حدودا جديدة للخوف، أولا بأن جعلته مُعولما وثانيا بأن وضعت مسلمات عديدة موضع الشك والارتياب.
هل يمكننا أن نتحدث الآن عن أوروبا موحدة ومتماسكة؟ من الصعب الإقرار بذلك أمام ما يحدث في إيطاليا وفي إسبانيا. الرئيس الصربي يتحدث عن التضامن الأوروبي كحكاية خرافية ويستنجد بالمساعدة الصينية. وبالمثل تفعل إيطاليا التي لم تأتها النجدة سوى من الصين ومن كوبا بعد رفض كل من فرنسا وألمانيا تصدير المعدات الطبية المستعملة لمواجهة الكورونا. إن حدود الخوف بصدد تغيير الحدود الجغراسياسة بين الدول وبين الشعوب. وقد تكون الوحدة الأوروبية في طريقها إلى التهاوي.
إن حدود الخوف تغير المجتمعات سواء أتى هذا الخوف من حروب كونية أو من جوائح هتكت ملايين الناس في الماضي. تغير المجتمعات على إثر الجوائح الكبيرة من مفهومها لإدارة الحياة، علاقتها بالدين وبالسلطة وبالمال وبالعلاقات المابيفردية وتتقلص إلى حدّ ملفت شرعيتها في بناء رؤية للعالم بما فيها من تصور لشكل العلاقات البشرية ومضامينها. وقد أكد ذلك « جاك أتالي» عندما اعتبر أن البشرية لا تتطور بشكل فعلي إلا من خلال مخاوفها الكبرى.
يقتضي الحذر الشديد من عدوى الكورونا الخوف من الآخر، أي النظر إليه كمشتبه وكحامل محتمل للفيروس. ممنوع اللمس، ممنوع الاقتراب، ممنوع التقبيل والعناق. إننا في قلب الروابط الاجتماعية المنهكة أصلا بثقافة الاستهلاك وبالمقارنات الصغيرة وبالطموح إلى تحقيق النجاح الفردي. تحولنا إذا من عالم اجتماعي يتنافس فيه الأفراد على تحقيق طموحاتهم المختلفة إلى عالم تركوا فيه هذه الطموحات جانبا وأصبحوا ينظرون إليها بازدراء أمام طموح البقاء وأمام الرغبة في استعادة الروابط الاجتماعية وحميميتها. لقد تحول الخوف من خوف من عدم النجاح في تحقيق التحديات إلى خوف من فقدان كل شيئ تقريبا. قد تعيد هذه الأزمة التساؤل حول قيمة الأشياء وتعيد النظر أيضا في تحديد الأولويات. ومن بين هذه الأولويات علاقتنا بالجسد وعلاقتنا بأولوياتنا الصحية وخصوصا أولوياتنا في أن نكون نافعين لأنفسنا وللأخرين وهو ما سماه « جاك أتالي» بالإيثار والتعاطف. هناك حدود بين الأشياء بصدد التشكل من جديد على قاعدة
أمام ما يحصل الآن في العالم هل هناك أمل؟
هناك أمل في أن نستخلص الدروس العميقة من هذه الجائحة. و أول هذه الدروس هو إعادة النظر في النظام النيوليبرالي الذي دمّر المنظومة العامة و دمّرت اختياراته المنظومة الصحية على وجه الخصوص. كل المؤشرات التي تدور حاليا تُظهر أن أغلب دول العالم قد قلصت في الثلاثين سنة الماضية من عدد الأسرّة في المستشفيات العمومية مع تبديد لافت لميزانياتها في اتجاه أكثر ما يمكن من التقليص. وإذ وجدت إيطاليا وفرنسا واسبانيا نفسها في هذا الوضع المأساوي فأن ذلك راجع بالأساس إلى اختيارات نيوليبرالية خالية من كل أفق إنساني.
الأمل في أن تسترجع الدولة اهتمامها بالشأن العام لفائدة الصالح العام وأن تعطيه ما يناسب من موارد مالية وبشرية وأن تعيد كذلك حوكمته بطريقة جيدة من أجل أن نتخلص من مقولة « دولة الحدّ الأدنى» التي تتخلى عن أدوارها الاجتماعية لفائدة رأس مال جشع.
هناك مقولة تلخص ما يحدث لنا: نحن هم الفيروس والكورونا هي اللقاح....فلنتعض...
بقلم: محمد جويلي
أستاذ علم الاجتماع، جامعة تونس