والتقدير الأخلاقي مطلوب عند ممارسة السياسة بالرغم من صعوبة المهمة. كل برلمانات العالم تشهد مناكفات وخصومات وبذاءة في الخطاب. والأمر لا يتمّ عندنا فحسب، بل هو حال كل الأنظمة السياسية التي يحتل فيها البرلمان مركز القرار السياسي.
عندما يكون البرلمان الحلبة التي تتوزع من خلالها السلطة وغنائم السلطة فإنه يكتسب بذلك كل هذه المشهدية التي يبدو عليها الآن. ظهر هذا الاهتمام بالرلمان منذ أن وقع الاختيار على أن تكون السلطة التشريعية ذات معنى لم يكن متوفرا لها سابقا. ولكن البرلمان ليس بنوابه فقط، أي تلك النخب البرلمانية التي بدأت تتشكل منذ تجربة المجلس الوطني التأسيسي. إنه علاوة على ذلك صناعة للقرار السياسي وصناعة للقوانين وللتوجهات العامة للدولة. هو أيضا حلبة للتكتلات السياسية وهو مجال للظهور ولبناء مسيرة جديدة. وهو مجال للرهان السياسي داخليا و إقليميا.
نعترف أنه لا توجد لدينا الدراسات الكافية لبحث ما يحدث في البرلمان، وما هو عالق بالأساس تلك الخصومات التي تحدث بين النواب أو بين النواب والوزراء والتي تصل إلى حدّ البذاءة ونكاد نجزم أنه يوجد نواب مختصون في ذلك ويصنعون شهرتهم البرلمانية من جرأتهم التي تتجاوز حدود اللياقة في كثير من الأحيان. ولكن لا يوجد هؤلاء فقط في البرلمان، هناك نواب آخرون مُجدّون في عملهم، ملتزمون بالتعهدات التي قدموها لناخبيهم قدر الإمكان. هؤلاء يريدون بناء مسار برلماني وسياسي ويرفقون حضورهم في لجان البرلمان بقدرة على العمل في الميدان.
ما يُسيء إلى سمعة البرلمان ليست المشادات الكلامية ولا طلب الجواز الديبلوماسي، إن ما يُسيء لهذه السلطة التشريعية هو أداؤها الباهت، أي عدم قدرتها على إرساء تقاليد المراقبة والمتابعة واقتراح مشاريع القوانين، كل لجان التحقيق التي وقع تشكيلها مثلا لم تكن في مستوى ما أنيط بعهدتها. فالسلطة الرقابية للبرلمان ضعيفة أو غائبة وهو ما يجعل هذه المؤسسة الدستورية محلّ شكّ وارتياب. هناك شكوك في انحنائها أمام مجموعات الضغط والمصالح. إذ لا وضوح حول كيفية اقتراح مشاريع القوانين وحول من يقف وراءها؟ وكيف يمكن تعطيل بعضها والتسريع بالبعض الآخر. كيف تُبنى الأولويات التشريعية؟ من يحدّدها وما هي المسارب التي تتخذها لتصبح موضوعا للنقاش وللتداول؟ وكيف تصنع الإتفاقيات بين الكتل البرلمانية القوية لتمرير قانون أو إدخاله عمدا طي النسيان؟ وكيف تتمّ مبادلة تمرير قانون مقابل موقف سياسي؟
أمام وضوح خطاب البذاءة هناك غموض يلفّ المطبخ الداخلي للبرلمان، أي ما يسمى بصناعة الشأن البرلماني. ومؤشر هذا الغموض أننا نعلم أن العديد من القوانين المصيرية لم تر النور إلى حدّ الآن لأنها تشكل رهانا غير مضمون للفرقاء السياسيين. وتأتي المحكمة الدستورية على رأس قائمة ما يجب على البرلمان التداول حوله وإنجازه دون مُواربة. والمُواربة آتية من أن الكتل البرلمانية تتحرك بصيغة أحزاب سياسية لا بصفتها سلطة مُساهمة في التشريع. وهو ما يجعل هذه الكتل البرلمانية وكأنها أحزاب موازية داخل البرلمان والنتيجة أن من يغضب في حزبه وهو نائب يترك كتلته ليتحول إلى أخرى أو يبقى منفردا.
هناك ثقافة ترذيل العمل البرلماني والتي تكاد تكون مقصودة ومُرتّبة وهو ترذيل للديموقراطية وللنخبة البرلمانية الصاعدة. الجانب الكبير من هذا الترذيل يتمّ برعاية النواب أنفسهم ويتمّ عبر تقاليد في الحوكمة البرلمانية ضعيفة. ومصدر هذا الضعف هو صعوبة بالغة في تشكيل الهوية البرلمانية التي لا تزال غير قادرة على التخلص من آثار السلطة التنفيذية ومؤشر ذلك أن النواب في أغلبهم يسعون عند كل تشكيل حكومي إلى ترك البرلمان من أجل موقع وزاري غير مدركين أن التجربة البرلمانية في ذاتها تجربة غنية و مُلهمة.
لا يمكننا اختزال سوء السمعة في مشادة كلامية أو بذاءة أو جواز سفر ديبلوماسي، تلك لا تعدو إلاّ أن تكون تفاصيل عابرة ولكنها في كل الأحوال دالّة. يأتي سوء السمعة من التصورات التي يبنيها الناخبون الآن عن البرلمان الذي كانوا وراء انتخاب أعضائه. المجلس مدعوّ إلى أن يشتغل على هذه التصورات، أن يعدّلها من أجل أن يُعطي في السنوات القادمة معنى لوجوده...
برج بابل: هل هو برلمان سيئُ السُّمعة؟
- بقلم محمد جويلي
- 09:22 25/02/2020
- 1333 عدد المشاهدات
ليس من الوارد الدخول في تفاصيل ما يجعل البرلمان في تونس سيئ السمعة. سوء السمعة هو تقدير أخلاقي يتجه إلى الثقة وإلى الشرعية السياسية.