منذ بدايات القرن العشرين على بناء عقد اجتماعي جديد يجمع كل التونسيين ويشكل الإطار الموحد لأحلامهم وآمالهم .
وقد ارتكزت عملية بناء هذا العقد الاجتماعي على أربعة محاور أساسية . المحور الأول هو تحديث الدولة والخروج من المؤسسات البالية للدولة القديمة وبناء وتركيز مؤسسات جديدة تحتكم إلى المبادئ الجديدة التي أتت بها الحداثة السياسية كفصل السلطات واحترام استقلالية السلطة القضائية وتركيز سلطة تشريعية منتخبة بطريقة ديمقراطية وسلطة تنفيذية لنظام رئاسي منتخبة بطريقة مباشرة عن طريق الشعب الى جانب عديد المؤسسات الاخرى .
الركيزة الثانية لهذا العقد الاجتماعي الجديد تهم الجانب الاقتصادي حيث عملت دولة الاستقلال على الخروج والقطع مع النمط الاقتصادي الاستعماري وبناء نمط تنمية مستقل يتجه نحو تلبية حاجيات المواطنين.فظهرت النواتات الأولى للصناعات الجديدة الموجهة للاستهلاك الداخلي والأقطاب الاقتصادية الجهوية وبرامج إصلاح القطاع الفلاحي وتطوير إنتاجيته إلى جانب ظهور عديد القطاعات الاقتصادية الجديدة كالقطاع الصناعي.
الركيزة الثالثة للعقد الاجتماعي لدولة ما بعد الاستقلال تخص الجانب الاجتماعي حيث عملت الدولة على نظرة جديدة للتضامن بين الفئات الاجتماعية تقطع مع الأطر التقليدية المبنية على العلاقات العشائرية والجهوية والقبلية وترتكز على المؤسسات الحديثة لتكون الدولة الضامن الوحيد للتآزر والتضامن بين الفئات الاجتماعية والداعم للفئات الشعبية الفقيرة والمهمشة. فكانت الاستثمارات الضخمة في قطاعي الصحة والتعليم وفتحهما لكل الفئات الاجتماعية. كما بنت الدولة مؤسسات اجتماعية مركزية ستشكل الأساس لهذا العقد الاجتماعي كمؤسسات الضمان الاجتماعي والتقاعد والضمان على المرض وغيرها.لعب الجانب الاجتماعي في هذا العقد دورا أساسيا في عملية الصعود الاجتماعي وظهور الطبقة الوسطى التي ستشكل القاعدة الاجتماعية الأساسية للدولة الحديثة.
اما الركيزة الرابعة فتهم الحريات الفردية وقد ركزت دولة الاستقلال على دعم هذه الحريات وخاصة المرأة لتحريرها من النظام الأبوي السائد في المجتمعات العربية والإسلامية وتمتيعها بالعديد من الحقوق والحريات الأساسية.فكانت مجلة الأحوال الشخصية والتي شكلت ثورة جذرية ووضعت المرأة في طريق المساواة.
شكلت هذه الركائز من تحديث الدولة وبناء اقتصاد مستقل ومؤسسات تضامن اجتماعي جديدة وتطور الحريات أساس العقد الاجتماعي الذي بنته دولة الاستقلال .وقد ساهم هذا العقد الاجتماعي والمشروع السياسي لدولة الاستقلال في تطوير تجربة سياسية خصوصية في المحيط العربي الإسلامي مكنت بلادنا من الخروج من النظام السياسي البالي والموروث من قرون من التهميش والتخلف والاستبداد الشرقي والدخول في المشروع الكوني للحداثة والحريات والعصرنة .
وقد نجحت هذه الرؤية في بناء تجربة جديدة دعمت أسس دولة الاستقلال وساهمت في تطوير مشروعيتها وتدعيمها .فعلى المستوى السياسي نجحت بلادنا في بناء مؤسسات حديثة وإعادة بسط الهيمنة الشرعية للدولة على أسس جديدة تتميز بالعقلانية والفعالية والتنظيم .
أما على المستوى الاقتصادي فقد نجحت بلادنا في نحت نمط تنمية متميز يرتكز على التوازن بين القطاع العمومي والقطاع الخاص من جهة والسوق الداخلية والسوق الخارجية .وقد كان للسياسات القطاعية وبصفة خاصة السياسات الصناعية والسياسات الفلاحية والتي ساهمت في تنويع الاقتصاد دور في تطوير اكتفائنا الذاتي والحد من تبعيتها للخارج.
ولم تقتصر هذه النجاحات على المستوى السياسي والمستوى الاقتصادي بل شملت أيضا المستوى الاجتماعي من خلال تطوير التعليم وتقنين اجباريته وتطوير قطاع الصحة وبصفة خاصة تعميم مراكز الصحة الأساسية الى جانب المؤسسات الصحية الكبرى في المدن الكبيرة.كما عرفت هذه المرحلة بناء وظهور الصناديق الاجتماعية الكبرى بين الفئات الاجتماعية والأجيال .
كما عرفت هذه المرحلة تطورا مهما في مجال الحريات الفردية وبصفة خاصة في مجال المرأة حيث تمكنت من الحصول على عديد الحقوق لتصبح مسالة المساواة في أولويات مشروع وبرنامج دولة الاستقلال الا انه بالرغم من هذه النجاحات فان مشروع العقد الاجتماعي لدولة الاستقلال سيشهد بعض الترهل منذ نهاية الستينات ثم ليدخل في أزمات متعددة والتي ستنذر بنهايته وبضرورة بناء عقد اجتماعي جديد.
أزمة العقد الاجتماعي لدولة الاستقلال
انطلقت أزمات العقد الاجتماعي منذ بداية الستينات حيث ستكون محاولة الانقلاب ضد الرئيس بورقيبة سنة 1962 نقطة تحول في النظام السياسي الحديث.فبعد السنوات الأولى لدولة الاستقلال التي تميزت باحترام المبادئ الديمقراطية وتنظيم انتخابات ديمقراطية سيقوم النظام بطيّ هذه الصفحة مع محاولة الانقلاب لينتقل إلى مواقع أكثر تصلبا وانغلاقا مع تحجير كل أحزاب المعارضة ومنها الحزب الشيوعي وغلق كل الصحف المستقلة .
وسينتقل النظام السياسي في بلادنا إلى فترة جديدة تتميز بهيمنة الحزب الواحد وسيطرته المطلقة على المجال السياسي .
وسيتواصل مسار خنق الحريات في الستينات والسبعينات مع ظهور المجموعات اليسارية مثل حركة آفاق والعامل التونسي التي سيواجهها النظام بالكثير من الغطرسة والحدة.
وستقود هذه الأزمات السياسية وبروز المعارضة اليسارية من الشباب إلى بروز خلافات حادة في صلب السلطة بين الجناح الصلب والجناح المتفتح والتي ستبرز للعلن في مؤتمر الحزب الحاكم سنة 1971 في مدينة المنستير .
وستقود هذه الخلافات إلى بروز المعارضة الديمقراطية والمنظمات المدنية كالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان .
مع تراجع النظام عن المسالة الديمقراطية والحريات منذ بداية الستينات ستفقد الحداثة جانبها الديمقراطي لتتحول تدريجيا الى مشروع تحديث تسلطي.إلا أن هذا التحول سيفتح مجال النضالات الديمقراطية والتي ستطالب بإيقاف هيمنة الحزب الحاكم على مؤسسات الدولة وأجهزتها .وستتمكن هذه التحركات والنضالات من افتكاك بعض الإصلاحات الديمقراطية لتعرف بلادنا بداية من الثمانينات انفتاح النظام السياسي وظهور بعض أحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني إلى جانب بعض الصحف والمجلات المستقلة .
إلا أن السلطة ستعود الى إحكام قبضتها من جديد على الفضاء العام وتحد من الحريات منذ نهاية التسعينات لينتقل النظام الى مواقع اكثر تسلطا واستبدادا .
ستشكل الأزمة السياسية وتراجع هامش الديمقراطية والحريات احد أهم مظاهر انخرام العقد الاجتماعي لدولة الاستقلال .إلا أن مظاهر هذه الأزمة لن تقتصر على المجال السياسي بل ستمتد إلى الجانب الاقتصادي .اثر أزمة التجربة التشاركية او التعاضدية ستنتقل بلادنا الى تجربة اقتصادية والى بناء نمط تنموي جديد يرتكز على الانفتاح على السوق الخارجية وعلى القطاع الخاص .وسيعمل النمط التنموي الجديد على إيجاد توازن بين القطاعين الخاص والعام والسوق الداخلية والسوق الخارجية .
إلا أن هذا النمط التنموي سيعرف بدايات انخرامه وتراجعه مع أزمة الصناعات المصدرة والتي تعتمد على قوة العمل الرخيصة. ومنذ تلك اللحظة بدأت عملية البحث عن نمط تنموي جديد والخروج من هذا النمط التقليدي لتتواصل إلى يومنا هذا .
وستشكل أزمة المديونية لمنتصف الثمانينات واللجوء إلى صندوق النقد الدولي لتبني برنامج تعديلي احد ابرز مظاهر أزمة نمط التنمية .ومنذ ذلك اليوم لم نقم إلا بتعديلات لهذا النظام التنموي ولم ننجح إلى اليوم في بناء تجربة او مشروع تنموي جديد.
اما الجانب الثالث في أزمة العقد الاجتماعي في بلادنا فتخص الاجتماعي وتزايد الإضرابات والاحتجاجات الاجتماعية والتي ستقود إلى الإضراب العام في 26 جانفي 1978 والهجمة الشرسة التي سيشنها النظام على القيادات النقابية وفي مقدمتها الأمين العام آنذاك للاتحاد السيد الحبيب عاشور وفي رأيي فإن أسباب هذه الأزمة والهجمة على الاتحاد تعود إلى مسالتين هامتين. الأولى سياسية وتعود الى إرادة الاتحاد وخاصة الجيل الجديد من النقابيين اليساريين الابتعاد عن هيمنة الحزب الحاكم والدفاع على استقلالية الحركة النقابية عن السلطة.اما السبب الثاني فهو اجتماعي ويعود الى محاولة الدولة الحد والتقليص من دورها الاجتماعي أمام الأزمة الاقتصادية الخانقة التي بدات تعاني منها.
لقد ساهم تزايد الإضرابات الاجتماعية والتحركات النضالات والأزمة مع الاتحاد العام التونسي للشغل في انخرام احد المكونات الأساسية للعقد الاجتماعي لدولة الاستقلال وهو الجانب الاجتماعي .
ولن تقتصر أزمة العقد الاجتماعي على الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل ستشمل جانبا جديدا وهو صعود المطالب المرتبطة بالهوية ورفض ابتعاد المشروع الحداثي لدولة الاستقلال عن الإرث الحضاري العربي والإسلامي وانبتاته عن واقع الفئات الشعبية وستعتبر هذه الحركات أن المجال الوحيد للخروج من أزمة مشروع الحداثة يكون بالعودة إلى الإرث العربي الإسلامي والانغماس فيه لابتكار حلول جديدة لازمة الدولة المدنية .
وستحمل حركات الإسلام هذه المعارضة الجديدة للدولة الحديثة وستعتبر ان الحل الوحيد لهذه الأزمات يمر بالعودة للقرآن ولمشروع دولة الخلافة التي ستمكننا من إعادة عصرنا الذهبي .
ومن هنا ستكون المعارضة لدولة الاستقلال ولعقدها الاجتماعي معارضتان .المعارضة المدنية والديمقراطية والتي تنادي بفتح مرحلة جديدة في مشروع الحداثة السياسية من خلال فرض الحريات والديمقراطية والقطع مع دولة الاستبداد .والمعارضة الثانية ذات المنحى الإسلامي والتي لا ترى مخرجا للدولة الحديثة إلا من خلال العودة إلى مشروع دولة الخلافة .
سيتخبط النظام السياسي في بلادنا في أتون هذه الأزمات والمعارضات وسيفقد القدرة على القيام بالإصلاحات الضرورية من الداخل من اجل إنقاذه وإصلاحه.وسيساهم تطور الفساد والمحسوبية في انخرام مشروعية النظام وانتفاء قدرته على التغيير والإصلاح .وأمام هذا العجز سيواجه هذه المعارضات بالمزيد من التسلط والاستبداد.
إن أزمة العقد الاجتماعي وانغلاق النظام وتكلسه ستفتح مرحلة الانتفاضات المتتالية والتي ستتحول إلى ثورة 14 جانفي 2011.
الثورة والأفق التاريخي الجديد
لقد فتحت الثورة مرحلة تاريخية جديدة في تجربتنا السياسية وفتحت المجال للخروج من الأزمات المتتالية عقد الاجتماعي وانهياره.ولعل احد أهم النتائج الكبرى لهذه الثورة هو اعتماد الدستور الجديد في سنة 2014 بعد مرحلة من الخلافات والصراعات بين مختلف الفرقاء السياسيين واهم العائلات السياسية .وفي رأيي فإن أهمية الدستور الجديد تكمن في وضعه بصفة توافقية جمعت كل التونسيين الإطار التشريعي والدستوري الذي يفتح المجال لإدخال التحولات الكبرى في العقد الاجتماعي الذي انفلتت حباته منذ سنوات وفي هذا المجال يمكنني الإشارة إلى خمسة مستويات كبرى للتغيير والتطور والإصلاح .
المستوى الأول يهم الجانب السياسي حيث نص الدستور على نهاية هيمنة الحزب وبداية تحول ديمقراطي حقيقي يحترم الحريات ويجعل من التعدد والفصل بين السلط واحترام حقوق الإنسان المبادئ والركائز الأساسية للجانب السياسي للعقد الاجتماعي الجديد.ولئن شهد هذا المسار بعض الانتكاسات والصعوبات فإن الإطار الدستوري الجديد فتح مرحلة جديدة في تجربتنا السياسية بالقطع مع عهد الاستبداد وتحديث الدولة القوية والتسلطية والدخول في العهد الديمقراطي من بابه الكبير .
المستوى الثاني والأساسي الذي حققه دستور 2014 يخص تحقيق المصالحة بين المبادئ الكونية للحداثة التي حملتها القوى السياسية الحداثية والتي هيمنت على المجال السياسي في بلادنا منذ المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر والعمق والزخم العربي والإسلامي والذي دافعت عليه قوى الإسلام السياسي وبعض القوى القومية منذ سبعينات القرن الماضي .وقد بلغت هذه العلاقة بين مبادئ الحداثة والإرث العربي والإسلامي الى مرحلة من التصادم والرفض كانت وراء المآسي السياسية والاستبداد الذي عرفته بلادنا قبل الثورة.وقد نتج عن هذا التعارض والتصادم انفصام كبير في الشخصية التونسية وتجاذب كبير بين رقمي المعادلة واللذين بديا غير قابلين للالتقاء .
إلا أن الدستور الجديد نجح بعد الكثير من الصراعات والخلافات والتوتر الذي ساد على النقاش في مرحلة المجلس التأسيسي في فض هذا الخلاف وإيجاد توافق ومصالحة جديدة المبادئ الكونية للحريات والتعدد وانخراطها في عمق وزخم تجربتنا ومحيطنا العربي والإسلامي.وقد أهدى هذا الدستور لبلادنا مجالا وأساسا للخروج من الصراعات المدمرة حول الهوية وفسح المجال واسعا لتحقيق هذه المصالحة التاريخية بين مبادئ الحداثة الكونية والتي تشكل أساس انفتاحنا على الحضارة العالمية منذ النصف الثاني لقرن التاسع عشر والإرث الحضاري العربي والإسلامي الذي نعيش فيه منذ البدايات .
المستوى الثالث الذي فتحه دستور 2014 يخص الجانب الاقتصادي للعقد الاجتماعي. ولئن لم يقدم برنامجا اقتصاديا جديدا او مقترحات لنمط تنمية جديد فانه أكد على بعض المبادئ الأساسية والتي ستشكل الإطار العام لإعادة بناء مشروع تنموي جديد.وقد أكد الدستور الجديد على مسائل أساسية في هذا المجال كالتوازن الجهوي وحماية المناخ وحماية الثروات الوطنية.وتعطي هذه المبادئ وغيرها الإطار العام لبناء تصور جديد للتنمية .
إلا انه المبادئ لم تقع ترجمتها إلى اليوم إلى نمط تنموي جديد لتبقى بلادنا تجتر نمطا مهترئا ومتأزما.
المستوى الرابع والهام في مجال إعادة بناء العقد الاجتماعي يخص المجال الاجتماعي .وقد أكد الدستور الجديد على جملة من المبادئ الأساسية الهامة كمحاربة الفقر والاندماج الاجتماعي والحد من التهميش .الا انه وبالرغم من إقرار هذه المبادئ الهامة فان الوضع الاجتماعي بقي مترديا لتعيش بلادنا اكبر ازمة اجتماعية في تاريخها الحديث.فالبطالة لا تزال في مستويات مرتفعة وخاصة بطالة أصحاب الشهائد.كما أن القطاعات الاجتماعية الكبرى كالتعليم والصحة تعرف حالة كبيرة من التردي والإهمال .أما الصناديق الاجتماعية فتعيش أزمة مالية كبيرة .
أما المستوى الخامس فيخص الحريات العامة والتي شكلت إحدى ركائز المشروع السياسي التونسي وخصوصيته .
وقد اشرنا أن هذه المسالة كانت وراء القرارات الجريئة التي أخذتها دولة الاستقلال في ما يخص المساواة بين المرأة والرجل والتي فسحت مجالا كبيرا للخروج من المجتمع الأبوي والقطع مع الهيمنة الذكورية.
إلا أن هذا الجانب شهد الكثير من الترهل مع تصاعد الاستبداد والتسلط.وقد جاء دستور 2014 ليؤكد من جديد على مبادئ المساواة ويفتح بالتالي أفاقا جديدا لتدعيم الحريات الفردية .
أمام أزمة العقد الاجتماعي الموروث من دولة الاستقلال جاء دستور 2014 ليحدد جملة من المبادئ وإطارا جامعا وموحدا لإعادة بناء التجربة السياسية التونسية وصياغة عقد اجتماعي جديد.إلا أن هذه المبادئ لم يجد إلا جزء قليل منها طريقه للتطبيق لتصبح مسالة إعادة بناء العقد الاجتماعي قضية أساسية وملحّة ومن أوكد أولوياتنا .
في ضرورة إعادة بناء العقد الاجتماعي
تعيش بلادنا منذ سنوات أزمة عميقة ومتعددة الجوانب تلتقي .في هذه الأزمة الجوانب السياسية وصعوبات التحول الديمقراطي والاقتصادية مع انهيار نمط الإنتاج الموروث من منتصف السبعينات والاجتماعية الخانقة مع ارتفاع البطالة والتهميش والفقر وعدم المساواة .
وقد حاولت اغلب الحكومات منذ الثورة إلى يومنا هذا محاولة إيجاد الإجابات على التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية .إلا أن النتائج لم تكن في مستوى الانتظارات لتبقى استحقاقات الثورة من شغل وحرية وكرامة وطنية بعيدة المنال .وقد كان هذا العجز وراء حالة الإحباط وغياب الأمل التي تسود في بلادنا وتهيمن على الفضاء العام .
وتعود أسباب هذا العجز إلى عوامل عديدة لعل أهمها غياب الرؤيا الشاملة والمشروع الذي يوحد التونسيين ويجمعهم.فقد حاولت اغلب الحكومات عن التعاطي مع الأوجه المختلفة والمتعددة للازمات بطريقة منفردة بدون وضعها في إطار جامع ورؤيا موحدة.فتعاطت اغلب هذه الحكومات مع الأزمة الاقتصادية بدون النظر إلى المسائل الأخرى.كما تم العمل على تجاوز الأزمة السياسية وابرز تحديات مسار التحول الديمقراطي بدون اخذ القضايا الأخرى بالاهتمام .كذلك الشأن بالنسبة للازمة الاجتماعية .
إذن ساهمت هذه المنهجية التفصيلية في تعميق الأزمات وانتشار الإحباط وغياب الأمل .
إن الوضع الحالي يتطلب القطع مع هذه المنهجية وضرورة تحديد تصور جديد حيث يكون نقطة انطلاق وبداية تجديد العقد لاجتماعي وبناء عقد جديد ديمقراطي واجتماعي على انقاض العقد البالي والموروث من دولة الاستقلال .
وفي رأيي فإن بناء هذا المشروع ستكون له نتائج هامة وايجابية لعل أهمها توحيد التونسيين حول رؤيا ومشروع جامع سيعطيهم الثقة في مواصلة المسار الثوري الذي تم فتحه سنة 2011 وإعطاء أفق جديد لتجربتنا السياسية التاريخية .
ستة تحولات كبرى للعقد الاجتماعي الجديد
لقد اشرنا في عديد المناسبات إلى أن الخروج من العقد الاجتماعي البالي والدخول بقوة في مرحلة بناء العقد الاجتماعي تمر عبر ستة تحولات كبرى .
• التحول الأولى يهم الجانب السياسي ويمر عبر مواصلة مسار التحول الديمقراطي وترسيخه.ويمر هذا المسار عبر ترسيخ مبادئ الديمقراطية والحرية والتعدد وجعلها أساس النظام السياسي ومرجع الممارسة السياسية. كما يمر هذا التحول باستكمال بناء المؤسسات الدستورية وإيجاد التوافقات السياسية الضرورية لاستكمال هذا المسار .كما أن نجاح هذا التحول يتطلب كذلك إعادة بناء سلطة الدولة وقدرتها على تطبيق القانون وتأكيد احترامه.
• التحول الثاني يهم الجانب الاجتماعي وهنا لابد لنا من الخروج من الأزمة الاجتماعية ووضع السياسات الضرورية من اجل دفع التشغيل وإعادة تهيئة القطاعات الاجتماعية كالصحة والتعليم .كما انه هذا المجال يتطلب كذلك تجديد آليات ومؤسسات التضامن الاجتماعي بين الفئات الاجتماعية والأجيال .إن حدة الأزمة الاجتماعية والتحديات التي تعيشها بلادنا في هذا المجال تتطلب حلولا ومقاربات جديدة تقطع مع السياسات القديمة وتحاول ابتكار إجابات وسياسات جديدة قاردة على إعادة الأمل وبناء الثقة في المستقبل .التحول الثالث يهم الجانب الاقتصادي ويقوم على الجمع بين جانبين مهمين .الجانب الأول يهم الخروج من انخرام التوازنات الاقتصادية الكبرى وتثبيت التوازنات الكلية .أما الجانب الثاني لهذا التحول فيهم الخروج من نمط التنمية المتهرئ والموروث من منتصف السبعينات وبناء نمط جديد يرتكز على الصناعات والنشاطات الاقتصادية الذكية أو الصناعة 5.0.
• التحول الرابع يخص التكنولوجيا أو التحول الرقمي حيث عرفت بلادنا تراجعا كبيرا مقارنة بعديد البلدان النامية وخاصة في إفريقيا التي دخلت الثورة التكنولوجية من بابها الكبير .
ويتطلب ا التحول التسريع في وضع إستراتيجية واضحة المعالم لتجاوز الهوة التكنولوجية والدخول في العالم الرقمي .
• التحول الخامس يهم مسالة الطاقة وضرورة الدخول بسرعة في عالم الطاقة النظيفة. ولهذا التحول انعكاسات ايجابية لا فقط على الجانب المناخي بل كذلك على التوازنات الكلية الكبرى لاقتصادنا حيث سيقلص احتياجاتنا للنفط ومصادر الطاقة الأخرى .
• أما التحول السادس والأخير فيهم البنية التحتية والتي عرفت تراجعا كبيرا في السنوات الأخيرة مما انعكس سلبا على مردودية اقتصادنا ونجاعة مؤسساتنا الاقتصادية وميزاتها التنافسية في مسار العولمة .
للحد من هذه الفجوة لابد لنا من إعداد برنامج استثمارات كبرى في هذا المجال لا يقتصر على البنية التحتية الكلاسيكية بل يمتد كذلك إلى المجالات الجديدة كالميدان الرقمي والتكنولوجيات الذكية.
إن تحقيق هذه التحولات الكبرى سيمكن بلادنا من بناء عقد اجتماعي جديد يقطع مع العقد المتهرئ لدولة الاستقلال ويسعى إلى فتح آفاق ديمقراطية واجتماعية لتجربتنا السياسية التاريخية .وتكمن أهمية هذه التحولات الكبرى في أنها تنخرط في إطار تجربتنا التاريخية وتدعم خصوصياتها وتفردها وتمكن بلادنا ومشروعنا السياسي من المحافظة على تميزه وعلوه .