لمدينة اتضحت لديها كل التوجهات ومنها الخروج المشهدي من الاتحاد الأوروبي بعد تجربة ما يقارب النصف قرن من الزمن.
تونس هي الآن عاصمة للضباب السياسي. لا شيء في الأفق يشير إلى انقشاع الأزمة. وحتى وإن تشكلت الحكومة وحصلت على الثقة فإن هذه الثقة ستكون ضبابية إلى أبعد الحدود. وهذا ما يزيد في تعميق الأزمة في السنوات القادمة.
البداية مع طلة الرئيس التلفزية التي لم تكن على العموم في مستوى ما ينتظره متابعوه وناخبوه علاوة على الفاعلين السياسيين. فبعد مئة يوم من ممارسته لسلطاته الدستورية لم يجد الرئيس المسالك التي تجعله من الوضوح لدى مواطنيه كي يفهموا ما يريده بالضبط خلال عهدته الرئاسية. فلا هو رئيس بالمقولات التونسية الرئاسية المعهودة ولا هو بالرئيس الذي كشف لنا مقولاته الجديدة التي جعلت منه مصدرا مثقلا بالثقة لدى ناخبيه. إذ لم يقل الرئيس من هم المتربصون بالتجربة الديموقراطية التونسية ولم يُشر إلى ما سيكون تمشي الديبلوماسية التونسية لمعالجة الأزمة الليبية ولا حتى القضية الفلسطينية بعد صفقة القرن. هذه الضبابية التي تلف بخطاب الرئيس وتلف بمقولاته السياسية التي سيمارس من خلالها سلطاته الدستورية لا تزيد لدى مواطنيه سوى المخاوف من وضع لا يريد أن يتحرك في الاتجاه الإيجابي. لن يكون الرئيس ضبابيا إلى مالا نهاية، فهو لا يزال في بداية العهدة الرئاسية وسيطالبه ناخبوه قبل غيرهم بأن يكون أكثر وضوحا وأكثر انقشاعا لمقولاته ولمقارباته في ممارسة سلطته السياسية. إذ لا أزعج في الحياة السياسية من غموض الموقف ومن ضبابيته والسياسي الجيد هو ذاك الذي يمتلك البيداغوجية الكافية ليدخل إلى أذهان مواطنيه لإقناعهم ولجعلهم يضيفون للشرعية الانتخابية شرعية النجاح في ممارسة سلطاته السياسية.
لا يأتي الضباب من قرطاج فقط، إنه يخيم على القصبة أيضا وعلى باردو كذلك. وعندما يكون الضباب السياسي عنوانا للمرحلة فهذا مؤشر على صعوبة إدراك مرحلة الانتقال الديموقراطي. إذ كلما اتضحت بوصلة السياسيين كان ذلك سندا للديموقراطية. وكلما كانت شعاراتهم غير ما يجده المواطنون في الواقع كان ذلك منفرا لهم من الديموقراطية. ولكن الضباب السياسي ليس وليد هذه المرحلة وليس مرتبطا فقط بعسر تشكيل الحكومة، إنه نتاج عدم جدية الطبقة السياسية عموما في أن يكونوا في مستوى اللحظة وفي مستوى النقلة التاريخية. ولذلك كان كل همّهم هو البحث بكل الأساليب عن موقع ضمن خارطة السلطة. إن الصغائر في السياسة مفسدة لكل شيء، وهذه الصغائر هي الرياضة المحبذة عند سياسيي اليوم. يتداولونها في الصالونات وعبر الواتساب، وهم على استعداد متواصل للذهاب بها إلى أبعد الحدود، بل أنها في اعتقادهم هي كنه السياسة وهي عنوان تموقعهم.
هل يمكن أن نرهن مصير حكومة بصدد التشكل بمجرد خوف على موقع؟ وهل يمكن أن نفاوض حول تشكيل حكومي اعتمادا على علاقات زبونيه؟ وهل يمكن أن نعزز الانتقال الديموقراطي والعرض الوزاري يكاد يكون على قارعة الطريق؟
هذه هي الصغائر في السياسة الجالبة للتهلكة الديموقراطية. وهذا هو حالنا تقريبا منذ 2011. لم نستطع إنجاز براديقم سياسي واضح المعالم والأشياء تتشابه تقريبا عند كل تشكيل حكومي. ولكن الضبابية الكبرى هي ضبابية البرامج. في كل مرحلة جديدة بعد انتخابات عامة يفشل السياسيون الذين هم في الحكم في أن تكون لهم برامج جريئة إذ أنها في الغالب عناوين مكررة بلا إبداع يُذكر فلا إمكانية للتمييز بين الفرقاء السياسيين بمختلف توجهاتهم على قاعدة برامجهم بل على قاعدة مواقعهم من منابات السلطة.
يتواصل الضباب على تونس، وصانعو الضباب غير مدركين لما تخفيه آلام الناس من غضب. فالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ما انفكت تقدم مؤشرات واضحة المعالم أن الأسوأ قادم ولكن الضباب لا يزال حاضرا بيننا.