كواليس النات: من استونيا الذكية إلى تونس الممانعة !

الرّقمنة وما أدراك ما الرقمنة ! حديث النخب والعامة.. تُعقد من أجلها المؤتمرات والندوات وتٌغدق عليها أموالا طائلة فى بلد حمل

شارة الرّقمنة عاليا فى مجالنا العربي والافريقى منذ منتصف القرن الماضي قبل أن يتخلى عنها تدريجيا في ما بعد.. فالرّقمنة فى القاموس التونسى :
طابور  يكاد لا ينتهي من الوكالات المتخصّصة فى الانترنت (الوكالة التونسية للانترنت، الوكالة الوطنية للسلامة المعلوماتية، الوكالة الوطنية للمصادقة الالكترونية، الوكالة الفنية للاتصالات) التى كان من الأنجع تجميعها فى جهاز مٌوحّد متعدّد الاختصاصات يٌعنى بتطوير الانترنت;
• منتج سياسوى قابل للتسويق يٌسال من أجله اللعاب،
• كتائب فايسبوكية تفتح النار على كلّ شيء  يتحرّك من حولها،
• مضمون ولادة فى حالة ولادة قيصرية رقمية عسيرة...
لمن قد لا يعلم «أستونيا» بلد صغير من بلدان البلطيق (نسبة الى بحر البلطيق بشمال أوروبا) شهد كغيره من دول البلطيق الأخرى (لاتفيا وليتوانيا) العديد من الانتكاسات المٌتتالية والمٌدويّة كفيلة بكسر إرادة أى دولة فى طور التشكّل من جديد.. ففي غضون أربع سنوات فقط من سنة 1940 الى سنة 1944 عرفت «أستونيا» تحوّلات عنيفة بدءا باجتياحها من قبل «الجيش الأحمر» وإلحاقها عنوة إلى «جمهوريات الاتحاد السوفياتى» ثم خضوعها مؤقتا لسيطرة «الرايخ الثالث النازي» قبل ان ترزح من جديد تحت المظلة السوفياتية إلى حدود سنة 1991 تاريخ سقوط الاتحاد السوفياتى .. اذا كيف تسنّى لبلد تجرّع لعقود طويلة من حنظل البيروقراطية السوفياتية المقيتة ان يتحرّر من قبضة سجّانه ليصبح اليوم مزارا رقميا تٌهرول إليه العديد من الدول المتقدمة فى زمن اختفت فيه المعجزات في ما عدى الإعجاز الرقمى الأستونى ؟
بمنتهى البساطة ودون تفلسف مؤدلج على الطريقة التونسية اعتمدت النخب السياسية الأستونية مباشرة بعد الاستقلال على مقاربة واحدة تتّسم بالطموح والتدرّج للقطع مع الحقبة السوفياتية من خلال المراهنة حصرا على  التحوّل الرقمي كمدخل حقيقى نحو تحقيق التنمية والرفاه الاجتماعي.. مقاربة انبنت على  تشخيص مٌدقّق  للواقع الأستونى الذي يعجّ بالكفاءات فى العديد من المجالات الرقمية التى لا  تقلّ عنها كفاءة واقتدار شبابنا المتخصّص فى الرقميات التى تلهث خلفه كبريات الشركات العالمية وأبرز المؤسسات الناشئة startups فى العالم...
بداية «الحلم الأستونى» انطلق أوائل تسعينات القرن الماضي ليٌتوّج سنة 2002 فى استحداث بطاقة تعريف رقمية carte d’identité numérique تٌسلّم لكل مواطن أستونى تجاوز سنّ 15 عشر سنة  تٌمكّنه من استخلاص ضرائبه وغيرها من الخدمات الإدارية والبنكية،  من الدراسة عن بعد، ومن القيام بواجبه الانتخابي بطريقة إلكترونية مؤمّنة.
فى سنة 2005 أقرّت «أستونيا» رسميا وبشكل غير مسبوق على المستوى الدولي الحقّ فى الارتباط بشبكة الإنترنت Le droit d’accès à internet كحقّ من حقوق الإنسان الأساسية Droit fondamental des droits de l’homme معلنة عن ولادة جيل رابع من الحقوق الأساسية : الحق فى الإنترنت، وما سيترتب عن ذلك من استتباعات  عميقة على مستوى التفكير الحقوقي والمنظومات القانونية ذات العلاقة...
إلا أنّ الملفت للانتباه، أنّ هذا الإقرار التاريخي رافقه تدريس مكثف لاختصاص «التربية على الميديا» Education aux médias  من الصفوف الابتدائية الى الجامعة ممّا ساهم الى حدّ بعيد فى تحصين المجتمع الأستونى من السقوط فى شرك مواقع التواصل الاجتماعي.. فالربيع الاستونى الذي أذهل العالم كان منذ البداية مستشرفا لأهمية الفصل بين الربيع الرقمي المستدام والربيع الفايسبوكي الملغّم...
لم يتوقف الإبداع الاستوني عند هذه الحدود فالاستثمار الخارجي المباشر IDE عرف فى التجربة الاستونية شكلا رياديا غير نمطي بإنشاء «مؤسسة المقيم الرقمي» e-résident الموجه للمستثمرين الأجانب الراغبين في بعث المشاريع الاقتصادية باستونيا وذلك بغاية جذب 10 ملايين مستثمر - قرابة العشر أضعاف من العدد الجملي لسكان استونيا - خلال العشر سنوات المقبلة، فيكفى ان يتم استيفاء عددا من الشروط  فى أقل من عشرين دقيقة وان تدفع 100 أورو فقط حتى تحصل على بطاقة مقيم رقمي carte de résident numérique دون الحاجة فعليا إلى الإقامة فى استونيا عبر عملية مؤمنة من ألفها إلى يائها تقودها منظومة تثبت ومصادقة بيومترية عالية الدقة والسلامة...
كما ان العقل الاستوني ابتدع فى مجال الديبلوماسية الرقمية فكرة إحداث أول سفارة إلكترونية فى العالم سنة 2018 مقرها اللوكسمبورغ وهي عبارة عن مركز بيانات ضخم Datacenter  خاضع للقانون الاستونى لا غير يقوم بإيواء المعطيات الخاصة والحساسة للمواطنين والدولة الأستونية على حد السواء بهدف حمايتها من الهجمات السيبرنية المحتملة مثلما وقع سنة 2008 عندما أصيبت البنى التحتية الرقمية لاستونيا بشبه شلل تام نتيجة هجوم سيبرني روسي - سيكون موضوع ورقة بحثية قادمة -.
فبعد ان فقدنا صفة النموذج le statut de modèle نحن اليوم بأمس الحاجة إلى أنموذج بديل قد ينير لنا السبيل فى حقبة من التاريخ البشري لا يكتبها سوى  المنتصرين الجدد القادمين من العالم الرقمي لا غير ...
من يدري قد ننجح هذه المرّة !

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115