قد زاغ عن اهدافه بسبب تحوله في اغلب البلدان الى حروب اهلية واثنية وطائفية ساهمت بشكل كبير في تدخل قوى أجنبية عمّقت الصراعات في تلك الدول ، منها اليمن وليبيا وسوريا ، وبعد ان ساد الاعتقاد بان الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان ، تظل مفاهيم غير صالحة لهذه المنطقة التي لم تعرف سوى فترات مضيئة جد قصيرة و محدودة من بصيص التنوير في تاريخها سرعان ما محقت لتترك مكانها لمزيد الاستبداد باشكال مختلفة ، اتجهت الانظار الى ما حدث ويحدث في السودان والجزائر ثم الى لبنان والعراق ، ثورات جديدةما فتئت تؤكد ان هذه الشعوب لم تفقد الامل في تغيير واقعها ، وانها امام صعوبات العيش وتنامي مظاهر فساد السلطة ، ليس لديها ما تخسره حين تجازف و تعمل على اسقاط انظمة متكلسة تتحكم في كل مؤسسات الدولة، مسخرة إياها لخدمة مصالحها الخاصة غير عابئة بأوضاع شعوبها التي تعيش البؤس والحرمان .
• انتفاضات سلمية: واصل المحتجون في السودان والجزائر ، ثم بعد ذلك في لبنان والعراق احتجاجاتهم في نفس النهج السلمي الذي اتبعته احتجاجات المنطقة في بداياتها، اواخر 2010 وبداية 2011، فرغم العنف الموجه ضد المحتجين من الجيش والامن ، في السودان والعراق ، ورغم ارتفاع عدد القتلى والجرحى والمفقودين ، الا ان القيادات ما فتئت تدعو الى سلمية التحركات ، اقتداءا بالثورة التونسية والمصرية ، واستخلاصا للدروس المريرة التي قدمتها انتفاضات ليبيا وسوريا واليمن.
وفي الحقيقة فان العصيان المدني السلمي قد اثبت نجاعته حتى قبل الانتفاضات العربية ، وهو الى جانب رسالته «الاخلاقية» كنقيض لتصرفات انظمة وحكومات لا تعرف الا القمع والعنف والتنكيل في مواجهة خصومها، اثبت منذ القرن الماضي فاعليته ، والامثلة عديدة، بدءا من نضال المهاتما غاندي ضد الاستعمار البريطاني ، مرورا بزعيم الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الامريكية ، مارتن لوثر كنغ ،ووصولا الى نلسن مناديلا ضد العنصرية في جنوب افريقيا.
• انتفاضات مواطنية : قدرة الاحتجاجية السلمية تكمن في انها تجمع أكبر عدد من المواطنين حول شعارات يغيب فيها البعد الطبقي الضيق أو الاثني أو الديني لصالح المواطنة بمفهومها السياسي والمدني العام ، اي الحرية والمشاركة في الفضاء العام، وببعديها الاقتصادي والاجتماعي ، اي ضد التفقير المتواصل والتفاوت الجهوي و من اجل حقوق اساسية منها ، الصحة والتعليم والعمل والخدمات الاساسية،
وهي ايضا ثورات دون قيادة ، و«الفيناشال تايم» محقة حين عنونت مقالها حول المظاهرات في المنطقة العربية بانها جاءت في «عصر التمرد دون قيادات»، وانها جمعت جميع الاطياف في بلدان كرست دائما البعد الطائفي مثل لبنان ، حيث «خرج جميع اللبنانيين في القرى والبلدات والمدن على اختلاف انتماءاتهم الدينية، سنة وشيعة ومسيحيون ودروز» مطالبين برحيل كل القادة السياسيين».
• «ارحل» بكل اللهجات المحلية: عادة ما تفاجئ الانتفاضات العربية الثانية ، مثل اختها الكبرى ، الاولى ،الانظمة ، فلا اجهزتها الامنية ولا العسكرية قادرة على توقعها ، ولا الدول «الصديقة « بكل الاتها المخابراتية الضخمة أمكنها ان تدرك حجم الغضب الشعبي الكامن داخل كل مواطن، والذي كان ينتظر ذريعة لينفجر ، مثل حرق البوعزيزي لنفقسه والذي أشعل فتيل تحركات عارمة في المناطق المحرومة ، كان ارتفاع سعر الدقيق والخبز في السودان وترشح بوتفليقة لعهدة خامسة في الجزائر والضريبة على مكالمات «الوتساب» في لبنان هي الشرارات الاولى لـ«ثورات دون مقدمات ولا مؤشرات» تبدأ لتنطلق في الساحات العامة ، بعد ذلك يستمد الحراك الشعبي قوته مع تزايد عدد المشاركين ، فتتحول الشعارات الاصلاحية الاولى الى شعار مركزي يختزل المطلب الرئيسي لكل مواطن : رحيل الانظمة ،الذي عُبّر عنه بجميع اللهجات الموجودة «تسقط بس» في السودان و«تنحاو قاع» في الجزائر و«كلكن يعني كلكن» في لبنان و«وشلع قلع» (اقتلعوهم من الجذور) في العراق، هذا الشعار الاخير الذي تحول من شعار طائفي الى شعار وطني جامع.
وتطور الشعارات ، في رائيي ، له اسباب ، من بينها ان الشعوب ، وبمجرد امتلاكها للفضاء العام الذي حرمت منه بالقوة، تحس بنخوة الانتصار وترفع من سقف مطالبها . ايضا ،هناك غياب للثقة في في هذه الانظمة، التي يدرك المحتجون انها غير قادرة على تحقيق الاصلاحات المطلوبة ، ويعرفون جيدا انه
بمجرد ، تخفيف ضغط الشارع عليها ، سيعود القمع ومعه الاعتقالات والاختطاف....
• «الانثى ، ثورة»: بعد عقود من التهميش والتغييب للمرأة ، تهميش ناتج عن عوامل ثقافية وحضارية ودينية، تتصدر المرأة العربية كل الانتفاضات ، مثبتة انها لاتقل شجاعة ولا قدرة عن الرجل، حتى أن بعضهن أصبحن ايقونات ، تتناقل صورهن المواقع الاجتماعية، فانتشرت صورة الاء صالح الواقفة بشموخ امام مقر القيادة العامة تؤجج مشاعر المتظاهرين وتحفزهم وتقودهم بكل ثقة في النفس ، واشادت عديد المواقع بالثائرات في لبنان ، حتى ان «البي بي سي» علقت ان «متظاهرات لبنان قد كسرن نمطية اللبنانيات التقليدية « مشيدة بـ«الثائرات الجميلات»، اللواتي «تخطين الصورة الجميلة» الى قيادة التحركات وتمردن ضد كل الكليشيات والقيود الطائفية المعهودة،ذلك رغم استمرار بعض التعليقات العاكسة للثقافة الذكورية التي تسجن المرأة الجميلة في مظهرهاوكأن الجمال يناقض الثورة .
وستكون الثورات العربية منعرجا مهما في المساواة وستقتحم المرأة المجال العام باكثر قوة ، وذلك على خلفية وجودها في الصفوف الاولى للثورة وقد بادرت الناشطات السودانيات باعتصامات امام وزارة العدل تحت شعار «لا لقهر النساء» وذلك للمطالبة برفع كل القوانين التمييزية ضد المرأة ، وطالبت اللبنانيات باجراء تعديلات على المحاكم الجعفرية الجائرة وبعدد مساو للذكور في الوزارات...
تمثل الانتفاضات الجديدة في كل المنطقة العربية استفاقة عارمةكسرت خلالها الشعوب حاجز الخوف ودخلت في صراع مباشر مع انظمة تدرك جيدا استحالة اصلاحها، بقي ان المشكل الاساسي يظل في الافتقار لبدائل حقيقية تقودها احزاب فاعلة وقى مدنية مؤثرة، وهذه، ايضا، احد جرائم الانظمة التي دمرت الحياة السياسية خلال كل العقود الماضية.