برج بابل: في غَفلة من دولة كَسولة: الشباب في حالة وعي مُبهر

سُميّت حالة وعي. تلك الإرادة الشبابية للذهاب نحو الأفضل والتي تأسر الاهتمام وتثير التساؤل حول ما يحدث في البلاد هذه الأيام.

هل هي نزوة شبابية؟ هل هي نهوض وعي كان خامدا؟ وهل هي تملّك جديد للفضاء العام؟ هل هي بالفعل ثورة مدنية؟ شباب يحمل آماله بين يديه وينزل إلى الميادين باحثا عن جمالية غير معهودة للمدن، للأرصفة، للساحات العامة ولأركان لم نعرها يوما الاهتمام الذي يليق بها. هناك من اعتبرها حدثا عابرا وهناك من سخر منها مطالبا بتنظيف العقول قبل تنظيف مسالك العبور. وثمة من قال إنها أرقى أنواع الوعي المُواطني، وهناك من وصفها بأنها تونس جديدة. وهناك من أبدى تخوفا من أن تصبح هذه المبادرات بديلا لما يجب أن تقوم به الدولة فنجد أنفسنا أمام حالة لاوعي. وهي تخوفات مشروعة.

في الوقت الذي هبّ فيه الشباب لتنظيف المدن، هناك شباب قد بدأ بتنفيذ مشروعه للهجرة السرية، وهناك شباب متربص بالوطن، وهناك شباب عدمي لا أمل له في وجود لائق. مشارب الشباب متباينة وفعله في الواقع مختلف ولهذا كلّه ليس الشباب سوى كلمة. ولكن الكلمة الآن للشباب الذي نزل إلى الشارع، للفضاء العام باحثا عن معنى لوجوده. ولم يكن هذا النزول سوى إشارة أولية لمسكه بزمام أموره في غفلة من دولة في حالة سبات.

المشهد الماثل أمامنا متنوع، لا يتعلق الأمر بحملات تنظيف وتجميل للمدن فحسب، بل أن المقترح من الشباب هو الضغط على ارتفاع الأسعار، هي الدعوة لاستهلاك منتوج تونسي، والمجال مفتوح لاقتراحات أخرى تأتي بها الأيام القادمة. ومع هذا الحراك يمكننا استنتاج رسائل ودلالات عديدة.

لا تحدث حالات الوعي التي نعيشها هذه الأيام إلاّ في المنعطفات الكبرى، في الثورات وفي انتصارات الحروب أو انتصارات كرة القدم الوطنية عندما يظهر هذا التضامن وهذا الإحساس الجمعي بالانتماء لوطن. نتذكر ما عشناه إبان الثورة ذلك المدّ الشعبي لحماية الأحياء والمدن فتشكلت لجان لتسيير الحياة اليومية في ظل غياب الدولة، وانتابنا شعور عام بالوحدة وبضرورة حماية ما أنجز.

قد تكون حالة الوعي هذه تعبيرا على استعادة ثورة لم تنجز مهامها، وقد تكون كذلك تعبيرا عن قرف من سلوك سياسي ومن فاعلين سياسيين ومن براديقم سياسي يجب كنسه كما تُكنس القُمامات التي اعترضت الشباب وهم ينظفون مُدنهم، فكما كنستهم الانتخابات، تكنسهم معاول الشباب وطلاءات الجدران.

وقد تكون حالة الوعي هذه إدراكا من الشباب لقيمة الفعل في الميدان، لقيمة الإنجاز الذي غاب عن الدولة التي بقيت أسيرة وعودها الزائفة. شباب قادر أو هكذا الرسالة المرغوب في إبلاغها. إن براغماتية هذا الشباب هي العنوان الذي يمكن أن يقود المرحلة، براغماتية الإنجاز دون خطابات ودون كلفة لغوية باهظة.

حالة الوعي هذه ليست إلاّ إشارة لتهاوي مؤسسات الفعل. هي نتائج الانتخابات دون احتساب المقاعد والأصوات.

إعادة امتلاك الفضاء العام هي إحدى المعاني التي تظهر لنا عبر هذا الفعل الميداني. والفضاء العام الذي فقد معناه في السنوات الأخيرة ولم يعد فضاء للعيش المشترك كما يرغب في ذلك مستعملوه. بحالة الوعي هذه هناك ترسيم جديد لشكل من الروابط الاجتماعية بل هو محاولة لتصور عقد اجتماعي جديد وعلاقات مُواطنية جديدة لن يكون الفضاء العام والفضاء الحضري سوى مسرح لها. وفي هذه الحالة ترتقي مثل هذه المبادرات إلى شكل من رقابة إيجابية على الدولة، من تذكير لها بواجباتها ومن دعوة لها لتأخذ الأمور مأخذ الجدّ ومن كشف لثغراتها العديدة.

تونس أخرى ممكنة ومُتخيلة هي من الرسائل التي يبعث بها شباب حالة الوعي هذه، وكأنه يقول هذه تونس التي نريد، وهذه تونس التي نحلم بها، وهذا هو العقد المُواطني الذي نرغب في إرسائه. ولكن المخاوف عديدة وهي مشروعة، مخاوف من أن ترتدّ حالة الوعي هذه إلى مجرّد نفحة عابرة ونعود إلى سلوكنا الذي عهدناه من اللامبالاة تجاه أنفسنا. وهناك المخاوف الأصعب والتي تقودنا إلى نموذج دولة الحدّ الأدنى الذي يترك مهام الدولة لغيرها دون مرافقة ودون رقابة فتظهر لنا مبادرات في ظاهرها مدنيّ وفي باطنها رغبة في إعادة تشكيل قواعد لعبة جديدة خارجة عن إرادة المواطنين.

هذه مخاوف ممكنة ومن الجدير وضعها ضمن سياقها في الوقت الذي تحافظ فيه حالة الوعي هذه على مُواطنيتها ومَدنيتها.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115