الدُّعابَة الديموقراطية... إضحـــاك مع الانتخابات

يحق لنا أن نضحك في غفلة من صندوق الاقتراع. تعودت الشعوب العربية أن تسخر سرّا من زعاماتها، وبرعت في توليف ما يمكن تسميته بالسخط الضاحك.

ولعل المصريين هم الأقدر من غيرهم على إبداع قصص مثيرة تارة من وحي الخيال وتارة أخرى من وقائع حصلت يتمّ إعادة تشكيلها بحيث تصبح أحاديث بين الناس مفعمة بالدعابة والفكاهة وهي في الغالب ذات مضمون سياسي. يحيك الناس قصص السخرية الضاحكة حول رؤسائهم من أجل تخفيف الضغط السلطوي، وقد تكون في كثير من الأحيان الطريقة المثلى للاحتجاج في سياق قمعي لا يقبل المسّ من هيبة الرئيس. كل رؤساء تونس منذ الاستقلال كانوا عرضة لجميع أنواع السخرية والدعابة بكل أنواعها. كان يحصل ذلك دوما خلف أبواب مُوصدة.

تغير الحال منذ الثورة بالرغم من أن الذين رفعوا شعارات الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية لم يدر بخلدهم أن يطلبوا حق الضحك من رؤسائهم المقبلين. فعلوا ذلك منذ الأيام الأولى لهذا الانتقال الديموقراطي. وبدأت الدعابة والضحك من الزعامات السياسية بمن فيهم من كان ولا يزال في السلطة أمرا مباحا ومتداولا في الفضاء العام دون خوف الرقيب. التندر هو شكل يجعل تافها ما نعتقد أنه على درجة عالية من الجدية. إنه يزعج القناعات والمعتقدات السياسية ويربكها. الضحك والتندر لا يغيران السياسات، بل يجعلانها أكثر ذكاء وأبلغ درسا في تنسيب الأشياء. ضمن حرية التعبير يتنزل الضحك والسخرية من السياسيين، وتقاس الديموقراطيات بمدى حضور الفكه فيها.

ما جدوى أن نتندّر برؤسائنا وبزعاماتنا في سياق الانتقال الديموقراطي؟
تحتاج الديموقراطية كي تترسخ في الأذهان وفي الأفعال إلى جعل السلطة السياسية والسياسيين موضوع سخرية وتندّر. ليس التندر هنا مجرد ثأر أو إحدى أشكال الاحتجاج فحسب، بل هو أيضا تقليص للمسافات الرمزية والقدسية بين الحاكم والمحكوم. نزع القداسة والهيبة القاتلة عن السلطة السياسية عبر الضحك والتندر هو وضع هذه السلطة موضع فرجة، ولكنها ليست فرجة تحت سيطرتها كما في النظم الاستبدادية. الديموقراطية إذا هي تلك الإمكانية المتاحة للمواطنين كي يصنعوا فرجتهم ضحكا وسخرية وتندرا من السلطة السياسية في الفضاء العام، عبر التلفزة وعبر كل الوسائط الممكنة.

لقد أتاحت الانتخابات التي نعيش وقائعها الآن إمكانيات لا حدود لها للدعابة. كل السياسيين المترشحين ودون استثناء كانوا موضع سخرية وضحك. ولما يسخر الناس من مرشحيهم السياسيين فإنهم بذلك يضعون موضع شك مصداقيتهم وجديتهم وعدم قدرتهم على الإيفاء بتعهداتهم. وامتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بكل صنوف الامتاع والمؤانسة وبكل التمثلات التي يحملها الناس حول هؤلاء السياسيين. وفي كل مواضيع التندّر من المترشحين هناك الإهانة وهتك الأعراض وهناك الكره والمحبة وثمة الإعلاء من الشأن وهناك كل ما يرتبط بالوجود البشري.

مثلما حللنا نتائج الانتخابات الرئاسية في دورها الأول مثلما أطلقنا العنان للكم الهائل من النوادر والسخريات من الفائزين الإثنين. مع النتائج وحتى قبلها أضحت « المقرونة» مصطلحا سياسيا جديدا في تمثلات الناس يعني فائزا بعينه ويعني أيضا شكلا من أشكال ممارسة السياسية وممارسة الفعل الانتخابي. وفي طرافة هذا المصطلح السياسي هناك تحويل للسياسي نحو مناطق غير إيديولوجية وغير جدية وهذا شكل سياسي ما بعد حداثي. هذا صنف من السياسي يتلاءم مع ما يسمى بالحداثة السائلة كنقيض للحداثة المحصنة والحديدية.

فائز آخر في الانتخابات الرئاسية في دورها الأول لم يسلم من النوادر ومن السخريات وهي في الغالب مرتبطة بأدائه اللغوي وبطريقة ظهوره في الفضاء العام. « الروبوت» مثل «المقرونة» مصطلح سياسي جديد هو الآخر للتعبير عن جزء كبير من جدية المترشح ومن صرامته بل من برودته أيضا. الفَكَه ُالذي أبدعه المتابعون للشأن السياسي في تونس يشير بالرغم من منسوب العنف والكراهية الذي فيه إلى أنّ إحدى ضمانات الديموقراطية وهي حرية التعبير بدأت مجالاتها في الاتساع. فالديموقراطية مجال لحرية الأفراد، هي المساواة في الحقوق وهي المساواة أمام القانون ولكنها مع كل هذه الجدية هي أيضا دُعابة وأية دُعابةٍ...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115