يوميات ناخب (5) : الانتخابات بين لذة المغامرة والانتظار الحذر

انطلقت الانتخابات الرئاسية في مكاتب الاقتراع في الخارج ولم تعد تفصلنا إلا بضع سويعات عن بداية التصويت في بلادنا.

وفي هذه السويعات الاخيرة تسود حالة عامة يمتزج فيها ويلتقي شعور البهجة والفخر والانتظار الحذر مما تخفيه نتائج الانتخابات ومستقبل المشهد السياسي .في هذه الأمتار الأخيرة قبل عملية التصويت يمتزج شعور الاعتزاز والأنفة الذي يغمر التونسيين منذ الثورة التي نفضت سنوات من الغبن والإحراج بعد سنوات الاستبداد بشيء من الخوف والقلق والكثير من الانشغال حول مآلات هذه المحطة الانتخابية وانعكاساتها على تجربتنا السياسية ومسار التحول الديمقراطي.

وتعود هذه الشعور والإحساس المتناقض لأهمية هذه الانتخابات الرئاسية ودورها المفصلي في تجربتنا السياسية . وتكمن أهمية هذه المحطة الانتخابية في مسائل أساسية – المسالة الأولى وهي أن هذه الانتخابات هي سابقة لأوانها بعد رحيل الأستاذ الباجي قائد السبسي . وقد صاحبت الأيام الأخيرة وخاصة الفترة الصحية الحرجة كثيرا من الإشاعات وصلت إلى حد تأكيد بعض المسؤولين وفي أعلى مستوى على محاولات أو تخطيط البعض لانقلاب على الشرعية وعلى الدستور . وكانت هذه الأيام العصيبة وراء الكثير من الخوف والقلق على صحة الرئيس وعلى انعكاساته على الاستقرار السياسي وعلى مستقبل التحول الديمقراطي .

وكانت ردة فعل المواطنين قوية أمام هذه الضبابية وعدم الوضوح من خلال الالتفاف الواسع والشعبي حول الرئيس خاصة يوم الجنازة الوطنية والتي أبرزت مخزون الدعم التي تتمتع به اهم مؤسسة سياسية في ديمقراطيتنا الفتية .

المسالة الثانية التي تفسر أهمية هذه الانتخابات تخص نتائج مسار التحول الديمقراطي والتي أصبحت محل نقد كبير وخيبة أمل وإحباط عند الناس . فلئن تقدمنا خطوات هامة في ميدان الانتقال الديمقراطي من خلال تنظيمنا لمحطتين انتخابيتين شهد الجميع بنزاهتهما فقد شهد المسار السياسي العديد من الانتكاسات

والتراجعات كانفلات وتشتت الأحزاب السياسي والخلافات المزمنة بين رأسي السلطة التنفيذية والسياحة الحزبية ..وقد ساهمت هذه الأمراض الطفولية في تراجع الثقة في الديمقراطية وحتى ظهور بعض الحنين للفترة السابقة وفترة الاستبداد باعتبارها كانت على الأقل قادرة على الحفاظ على الأمن .

ولم تقتصر صعوبات المرحلة الانتقالية على المسائل السياسية بل امتدت إلى المسائل الاقتصادية مع احتداد الأزمة الاقتصادية وعجز الحكومات المتعاقبة على إيجاد الحلول الضرورية من اجل وضع اقتصادنا على سكة النمو والتحول الاقتصادي . فلم تتمكن بلادنا من الخروج من حلقة النمو الهش وانخرام التوازنات الكبرى وتصعد المديونية والتخضم .

كما شملت الأزمة الشاملة التي تعيشها بلادنا العقد الاجتماعي أمام المستويات الكبيرة للبطالة وخاصة بطالة أصحاب الشهائد وتدني القطاع العمومي في ميدان الصحة وازمة المدرسة العمومية .

تعدد هذه الأزمات كانت وراء تراجع الثقة في بلادنا في النخب السياسية وحالة الإحباط الكبير الذي تعيشه أطراف وفئات اجتماعية واسعة وظهور الكثير من الخوف والقلق أمام المستقبل .

وتأتى هذه الانتخابات الرئاسية في ظل هذا الواقع المتأزم والمهتز لتشكل بالنسبة للعديد فرصة لعودة الروح لهذا المسار الديمقراطي وبداية انعطفاه لإعطاء دفع جديد للمسار السياسي والخروج من مربع النمو الهش .

أما السبب الثالث والذي يعطي لهذه الانتخابات أهمية خاصة هو تصاعد الأنانية والمصالح الخاصة واللوبيات والتي بدأت تخترق مؤسسات الدولة وكانت وراء التطور الكبير للفساد والرشوة والمحسوبية.وأصبحت هذه المظاهر مصدر إزعاج وقلق وخوف كبير من المستقبل . كما أنها ساهمت إلى حد كبير في إضعاف الدولة وزعزعة ثقة المواطنين فيها . ولهذه الأسباب تشكل هذه الانتخابات محطة مفصلية وأساسية باعتبارها فرصة لإعادة بناء الدولة وإحيائها ودعم مؤسساتها من اجل التصدي للوبيات الفساد والرشوة والمحسوبية .

أما السبب الرابع الذي يفسر أهمية هذه الانتخابات الرئاسية السباقة لأوانها فيعود إلى كونها تأتي قبل الانتخابات التشريعية على خلاف التنظيم الرسمي للانتخابات في بلادنا .

وهذا التغيير سيكون له تأثير على مسار الانتخابات التشريعية وبالتالي على تركيبة البرلمان وعلى التحالف الحكومي الذي سينبثق من رحم المجلس . فتنظيم الدور الأول للانتخابات الرئاسية وصدور نتائجها قبل الانتخابات التشريعية سيساهم في نجاح وتقدم الأحزاب المساندة للمرشحين الذين سيصعدان الى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية لتمكين الرئيس المنتخب من تكوين أغلبية برلمانية تساند برنامجه الرئاسي واختياراته الكبرى .

لكل هذه الأسباب تشكل الانتخابات محطة مفصلية وأساسية في هذه اللحظة السياسية التي تعيشها بلادنا . وهذه الأهمية تفسر هذا الشعور المتناقض بين الشعور بالاعتزاز والنخوة والفرح من جهة والحذر والخوف والترقب مما تخفيه هذه اللحظة .

أما أسباب الفرح والاعتزاز فهي كثيرة ومتعددة ويمكن أن نشير إلى البعض منها – أولها مواصلة مسار التحول الديمقراطي ودرء كل المخاطر وبصفة خاصة المخاطر الإرهابية والتي وصلت ذروتها في سنتي 2014 و2015. وقد تمكنت بلادنا من الإعداد لمجابهة هذا الخطر من خلال إعطاء المؤسستين الأمنية والعسكرية الإمكانيات الضرورية لحماية بلادنا من هجمات الإرهابيين . فقامت مختلف الحكومات منذ سنة 2014 بتمكين المؤسستين من برنامج تأهيل عاجل وواسع من خلال شراء المعدات الضرورية وتكوين أبناء المؤسستين على حرب العصابات التي تخوضها المجموعات الإرهابية . ولم يكن هذا البرنامج وتأهيل المؤسسة العسكرية والأمنية كافيا لو لم يجد السند الكافي من قبل فئات واسعة وعريضة من الشعب والتي رفضت تغيير نمط عيشها الذي تسعى المجموعات الإرهابية لتحقيقه وفرضه باللجوء الى العنف المسلح .

وقد مكنت التعبئة الكبيرة للمؤسسة الأمنية والعسكرية والسند الشعبي الواسع من الوقوف أمام الخطر الإرهابي ودحره ومواصلة مسار التحول الديمقراطي في بلادنا.

المظهر الثاني من مظاهر الاعتزاز هو قدرة بلادنا في ظرف سويعات على تفعيل الدستور وتعيين رئيس مؤقت على رأس الدولة وعلى رأس مجلس نواب الشعب اثر وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي . وقد أثار رحيل الرئيس الكثير من التخوفات حول قدرتنا على تفعيل المسارات الدستورية من اجل سد الشغور وتنظيم انتخابات رئاسية سابقة لأوانها في الآجال الدستورية . وقد زاد من تعقيد هذا المشار تزامن الانتخابات الرئاسية مع الانتخابات التشريعية .إلا أن هذه الصعوبات تم تجازوها وكان الهاجس الأساسي هو احترام الدستور والقانون الانتخابي وعدم تجاوز الآجال التي حددها .وقد أثبتت الطريقة السلسة التي تمكننا بها من إدارة هذه المرحلة الانتقالية صلابة وقوة المؤسسات الدستورية بالرغم من كونها لم تتجاوز بعض السنوات منذ بعثها وانطلاق العمل بها . وقد زاد هذا النجاح من اعتزاز الناس بتجربة التحول الديمقراطي باعتبار انها مكنتنا من وضع مؤسسات قادرة على درء المخاطر وعلى إدارة أعوص المراحل والأوضاع السياسية .

كما كان تنظيم الحملة الانتخابية مظهر من مظاهر الفخر مقارنة بعديد البلدان الأخرى في محيطنا العربي والإسلامي حيث لازالت لغة الاستبداد أو الرصاص طاغية . وبالرغم من بعض الهنات والتجاوزات فقد نجحنا في تنظيم حملة انتخابية سليمة تمكن فيها كل المترشحين من الالتقاء بناخبيهم في جل أنحاء البلاد وتنظيم الاجتماعات الكبرى والشعبية لتقديم برامجهم وقراءاتهم وتصوراتهم . ولعل تنظيم المناظرات الانتخابية بين المرشحين لأول مرة كانت أهم لحظة في هذا المسار الانتخابي فقد جمعت الثلاث مناظرات ملايين المتابعين أمام أجهزة التلفاز. وقد بلغ هذا النجاح درجة أن المقاهي خصصت شاشاتها العملاقة والمخصصة لكبرى المباريات الرياضية لبث المناظرات التلفزية والتي تابعها عدد كبير من رواد المقاهي .

وأعطت هذه المناظرات للجمهور الواسع والعريض فرصة لفتح نقاش كبير حول برامج مختلف المترشحين وأدائهم خلال هذه الحوارات .وكان الأسبوع الذي تلا هذه المناظرات مليئا بالتعليقات والنقاشات على شبكات التواصل الاجتماعي وبين الناس في الأماكن العامة وفي المكاتب مما ساهم في دعم تقاليد النقاش العام حول المسائل السياسية والتي تمثل احد أسس الأنظمة الديمقراطية .

كل هذه الأسباب والعناصر كانت مصدر فخر واعتزاز ولذة بهذه التجربة الديمقراطية والمسار الذي فتحناه منذ 2011. فقد تمكن التونسيون من المقارنة بين تجربتنا السياسية الديمقراطية القصيرة وتجارب البلدان الأخرى في محيطنا القريب حيث لازالت الدولة المستبدة تهيمن على المجال السياسي وتمنع بكل قوة وشدة فتح مجال المشاركة والمواطنة . وأصبحت هذه التحولات الكبرى ومسار التحول الديمقراطي بالرغم من نقائصه مصدر فرح واعتزاز عند اغلب التونسيين . كما أن نجاح المؤسسات الدستورية في تنظيم هذا الانتقال السلمي للسلطة زاد من إيمان وثقة التونسيين بالتجربة الديمقراطية وبقدرتها على إدارة الشأن دون السقوط في الفوضى .فقد كانت لسنوات طويلة حجة المدافعين عن الدولة القوية والاستبداد هي قدرتها على الحفاظ على وحدة مجتمعاتنا ومنعها من السقوط في الفوضى والتلاشي .إلا أن تجربتنا في التحول الديمقراطي والانتقال الديمقراطي اثبتت أن المؤسسات الديمقراطية والمنفتحة قادرة على إدارة الشأن العام بفعالية دون اللجوء الى القوة الدولة حتى لو كانت ناعمة .

إلا أن مشاعر الفرح والاعتزاز والنخوة تخللها شعور بالانتظار الحذر يشوبه الكثير من القلق والخوف حول مستقبل المشهد السياسي في
بلادنا .والمصدر الأول للقلق يعود إلى قدرتنا وقدرة المسار الانتخابي على الإيصال إلى مراكز السلطة والقرار الشخصيات القادرة على إعادة بناء الدولة وحمايتها من اختراقات كل اللوبيات والفساد والمحسوبية . كما أن التساؤلات تحوم حول قدرة الشخصيات التي ستصل إلى أعلى هرم الدولة على إعادة بناء العقد الاجتماعي الحامي لكل الفئات الاجتماعية وخاصة الطبقات الوسطى وخاصة الفئات الضعيفة .كما أن هذه الانتخابات ستكون كذلك مصدر قلق وانتظار لنتمكن من الوقوف على قدرتنا على بناء التحالفات والتوازنات لتقوية عود وصلابة المؤسسات وتجاوز الأزمات السابقة.

بالرغم من هذه المخاوف والقلق وهذا الانتظار والحذر قبل سويعات من انطلاق العملية الانتخابية فان هذا المسار الديمقراطي كان مصدر فخر واعتزاز أحسسنا فيه بلذة المغامرة ومرحها وأثبتنا فيه أن المؤسسات الديمقراطية الصلبة هي أكثر فعالية من الدولة المستبدة لبناء النسيج الاجتماعي وحماية تماسكه .
إلا أن نجاح هذه المغامرة يتطلب منا الإقبال بكثافة والتوجه اليوم إلى صناديق الاقتراع بكثافة .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115