لجرائم فظيعة ترتكب في الغالب لأسباب تبدو تافهة. إن ما يزعج التونسيين ليس فقط ما يرتكب من جرائم بل أن ما يزعجهم أيضا هو القتل من أجل سيجارة أو من أجل كلمة نابية أو حتى خلاف حول لعبة الورق. يمكن أن يحدث هذا بين أخوة أو أصدقاء كما يحدث بين أفراد جمعهم السياق.
السؤال الذي نطرحه : لم تؤدي الأشياء التافهة والبسيطة إلى جريمة قتل؟ العلاقة بين السبب والنتيجة تبدو غير منطقية بالمرة.
في الاتجاه نحو تقديم قراءة للمسألة من المهم تقديم بعض المعطيات. لقد أوردت دراسة لمعهد الدراسات الاستراتيجية بعض البيانات التي منها أنه في سنة 2017 شهدنا ارتفاع منسوب الجريمة بنسبة 15بالمائة مما يعني 200000 فعل إجرامي بمختلف أنواعه في سنة واحدة. كما آوت الوحدات السجنية 42 بالمائة من الشباب، 73 بالمائة منهم أعمارهم بين 18 و25 سنة وتشهد المدن الكبرى أكبر عدد لهذه الجرائم. ولكن المفارقة أن المدينة الأكثر أمنا هي المدينة الأرفع في نسب البطالة ونتحدث هنا عن تطاوين، مما يعني أن العلاقة بين الوضع الاقتصادي والجريمة ليست بالضرورة العلاقة المفسرة للظاهرة.
ما الذي يحدث إذن؟
من الوارد أننا دخلنا منعطفا بموجبه بدأت الجريمة في تغيير ملامحها وفي تغيير حدودها ومضامينها وأشكالها. الفرضية المطروحة لفهم الظاهرة هي أننا بصدد الانتقال من شيء اصطلحنا على تسميته بالمجتمع إلى شيء آخر يسمى مجتمع الأفراد. من الضروري هنا التفريق بين المقولتين، فالمجتمع هو مقولة تحليلية نشأت مع بدايات القرن العشرين في فضاءات العلوم الإنسانية والاجتماعية وفي فضاء علم الاجتماع على وجه الخصوص على الرغم من ورود مقولة العمران البشري عند ابن خلدون قبل ذلك بكثير. وتعني هذه المقولة ذلك الاجتماع البشري الذي تنظمه قيم ومعايير وتديره مؤسسات ادماج اجتماعي ضاغط يفرض قهره على الأفراد ويسطر لهم خط سيرهم ويعاقبهم ماديا ورمزيا إذا تجاوزوا خط السير هذا. مؤسسات التنشئة الاجتماعية: العائلة والمدرسة والدين والأشكال التضامنية المختلفة والرموز تقوم بوظيفة حماية الأفراد من أنفسهم، ومن أزماتهم وتجعلهم أكثر ما يمكن منسجمين مع رؤية موحدة لما يجب أن يكون عليه العبش في مجتمع مع احترام موجب للقواعد المتفق حولها والتي هي من صنع المجتمع نفسه. ويحصل أن يمر هذا المجتمع بهزات وتناقضات تهدد مكانته وجاء تعبير « الأنوميا» كدلالة على وصوله إلى مرحلة التفكك عندما يفقد معاييره التي تضبط مسار سيره.
مقولة مجتمع الأفراد، مقولة برزت مع أواخر القرن العشرين. وهي قراءة أخرى للعيش المشترك و نظرة مغايرة للعلاقات بين الأفراد. تعطي هذه المقولة أهمية للأفراد ولفعلهم في المجتمع، فهم الذين يسطرون اختياراتهم وهم الذين يبنون مشاريع حياتهم ويوسعون مجال اختياراتهم ويفاوضون من أجل كسب المزيد من الحضور في المجالات التي تهمهم. لم يعد الأفراد وفق هذه المقولة قابلين بسهولة لإكراهات المنظومة المجتمعية. يتجلى هذا الوضع الجديد للأفراد في الرغبة الملحة لديهم كي يكونوا أكثر حضورا وأبلغ تعبيرا عن ذواتهم. مستفيدين من التحولات الكبيرة التي أتت بها العولمة بأن يسعى الأفراد إلى تمديد مجالات هويتهم التقليدية بكل ما في العملية من متاعب ومشاق ومن نجاحات أيضا. فصعود الفردانية أعطى إمكانيات أكبر للأفراد للتألق ومزيد كسب الرهانات ولكن في ذات الوقت وضعهم أمام تحديات بالغة و معقدة. وأهم ما في هذه التحديات ما يسميه «فرويد» بنرجسية الفوارق الصغرى. فالفوارق الصغرى بين الأفراد هي التي تعطي الآن معنى الوجود وهي التي تصنع قيمة الفرد ضمن المجال الذي يتحرك داخله، فالفرد يحاسب نفسه من داخل منظومة من الفوارق الصغرى وأخذ يبتعد شيئا فشيئا عن إحباطات الفوارق الكبرى الاجتماعية منها والطبقية وغيرها ليهتم بما يحدث حوله ضمن شبكة العلاقات التي يتحرك داخلها. المقارنات الصغرى هي تلك المفارقة التي يعيشها الفرد بين طموحاته وتطلعاته من جهة وبين ما هو متاح أمامه من فرص وإنجازات وعينه على ما حققه أترابه أو جيرانه أو الذين بإمكانه أن يقارن نفسه بهم. فكلما كثرت الفوارق وظهرت وفشل الفرد في السيطرة عليها كان ذلك دافعا لشعوره بالإحباط. فيكف النظر لهذه الإخفاقات على أنها مشكلات اجتماعية فينظر لها فقط كإخفاقات شخصية. وهنا بالذات يصبح الفرد وحيدا في مواجهة مصيره بأتعابه الكبيرة وتحدياته المعقدة التي يفرضها مجتمع الاستهلاك في ظل غياب مؤسسات المجتمع التي كان دورها حماية هذا الفرد ومرافقته. الهشاشة التي أصبح عليها الأفراد تتسع مجالاتها بشكل غير مسبوق، وهذه الهشاشة النفسية والاجتماعية هي التي تغير من نظرة الأفراد لمضمون المخاطر وأشكالها. نتحول في مجتمع الأفراد إذا من الخلاص الجماعي إلى الخلاص الفردي وهنا تكون الضريبة أعلى والمأساة أكبر.
في مجتمع الأفراد الذي يكون فيه الفرد مواجها لمصيره دون مرافقة يكون من السهل بروز سلوكيات محفوفة بالمخاطر وأهمها استهلاك المخدرات والإرهاب والانتحار والهجرة السرية والجريمة. كل هذه الظواهر تكشف عن ذوات في حالة تعب وإرهاق ويأس. فالذات الفردية المرهقة تفقد بوصلتها بسهولة، وفقدان البوصلة هذا يدفع الفرد إلى ركوب المخاطر مع إدراك جيد لما ستؤول إليه نتيجتها. وهنا يتغير معنى الموت عند هؤلاء ويصبح من البساطة مما يجعله سلوكا عاديا فمرتكب جريمة القتل أو المنتحر وحتى متعاطي المخدرات لا يرى المسافة بعيدة بين سلوكه المحفوف بالمخاطر وإدراكه لذاته، فكل ما يمس هذه الذات المتعبة وكل ما يهينها بالإمكان أن يؤدي وبسهولة إلى جريمة.
هناك دعوات عديدة إلى عدم ترك الفرد وحيدا أمام مصيره وأن الحلول للمشكلات الفردية يكون بإرجاع قوة مؤسسات التنشئة والمرافقة الاجتماعية التي تدرك جيدا متطلبات الفردانية الجديدة. وفي هذا السياق لا يمكن لمؤسسات التنشئة بصيغتها الحالية أن تشتغل بمضامين وأشكال قديمة، عليها أن تكون قادرة على الإنصات الجيد لمتطلبات هذه الفردانية الصاعدة وعليها أن تجد الحلول التي تجعل منها مؤسسات ذات مصداقية لدى فردانية مسكونة بالإرهاق والخوف. وهذا هو التحدي الجدي أمام من قدموا أنفسهم مترشحين للانتخابات الرئاسية والتشريعية على السواء.