الرئيس الذي لـم تفرزه الترشحات

قبل أسبوع من اغتيال شكري بالعيد اقترح علي أحد الأصدقاء لقاء خاصا بالباجي قائد السبسي.

فكانت فرصة رائعة لي، وأنا الباحث في علم الاجتماع، كي «أحضر ما يشبه صناعة التاريخ» بشكل مباشر. كان اللقاء مبرمجا لربع ساعة لكن الباجي قائد السبسي مططه لنصف ساعة. ذهبت خمس دقائق في التقديم والمجاملات، وتكلم الباجي حوالي عشرين دقيقة شرح خلالها هدفه من تكوين حزب نداء تونس، عارضا خلال ذلك مهارات جيله في التعامل مع «الناس» بما يفهمون. وفي المقابل كان سؤالي الوحيد والمباشر له: هل يعترف حزبكم بالثورة؟

اليوم ذهب الباجي قائد السبسي بعد أن حقق ما هو مؤهل له، وبعد أن فشل فشلا ذريعا في الإجابة السياسية عن سؤالي. ما حققه، بيد عالية، يتعلق في رأيي بمهمته الدستورية تحديدا: الدفاع والأمن والدبلوماسية والوحدة الوطنية . والنتيجة أن تونس استطاعت تحدي الإرهاب والوقوف على قدميها دبلوماسيا في محيط إقليمي عاصف لا يسمح بأقل الأخطاء. ما فشل فيه، -لأنه لم يخلق سياسيا لذلك- هو الالتقاط الحسي الدقيق لنبض قلب الثورة الذي يطالب بالتنمية وبوضع حد للفساد والاستبداد ولاحتكار «منافع الحكم»، كشرط لإعادة الثقة في القيادة السياسية. والنتيجة أن حزبه تعرى اليوم من كل شيء، وأن الترشح بعده لمنصب رئاسة الجمهورية أصبح مطمعا سهلا قد يأتي به الحظ أو تجلبه الشعوذة بمفهومها الأصلي والمجازي.
واليوم يواجه التونسيون تحديا عالي المخاطر وهو اختيار رئيس للجمهورية من جملة من المترشحين يفوق عددهم العشرين شخصا، الغالبية الساحقة منهم يعرفون أن حظوظهم في الوصول إلى الدور الثاني صفرية. السؤال الأول الذي ينبغي على التونسيين التفكير فيه هو ماذا يعني هذا الوهم الذي تلبس بهؤلاء المترشحين كي يأمل كل واحد منهم أنه سيكون الفائز بالمرتبة الثانية (المرتبة الأولى محجوزة إذا استمر الجميع في ترشحهم) على حساب رفيق دربه أو جاره الفكري أو الاجتماعي؟ من هم صُناع هذه الأوهام؟

هذا يثير سؤالا آخر: هل فهم هؤلاء درس اغتيال شكري بالعيد الذي كان بمثابة عملية كنس، عالية الاحتراف والتجربة والمعرفة، أمام التاريخ كي يسهل التحكم في مساره المستقبلي، كما حدث في الماضي في كثير من التجارب الثورية. ها هي اليوم النتيجة عارية وواضحة وضوح الشمس: أصبح من الممتنع تشكيل قوة اجتماعية تقدمية موحدة تلتقط النبض الحقيقي للثورة، وقد حصل ذلك حتى وإن كان الثمن وضع التوجه الحداثي للمجتمع موضوع تفاوض.

اليوم يترشح للرئاسة من يخلط بين مهمته ومهمة رئيس الحكومة، ويروج لفكرة أن يعود الرئيس للامساك بجميع مقاليد السلطة وملفاتها التنموية لأنه منتخب من طرف الشعب بينما رئيس الحكومة غير منتخب، وهذا احتيال على السياسة وحنين لسلطة الزعيم «التقليدي» الذي يمكنه عندما «يستتب له الأمر» أن يحمي ويوزع المهام والنعم. إن رئيس الحكومة لا يأتي من الشارع بل من حزب يُزكى انتخابيا على برنامج عمل مطالب بتطبيقه ويحاسب عليه، وما على المتناحرين المشتتين إلا تقديم مصلحة الوطن والمجتمع على «الحوانيت الخاصة»، وبناء أطر سياسية حديثة تمكن من النجاح الانتخابي وقيادة البلاد نحو المستقبل الأفضل.
إلى حد الآن يتحدث المترشحون الذين أُعطُوا الكلمة، قبل أن يحتدم السباق، عن أشياء غائمة. تارة يرددون ما يقوله الدستور عن مهام رئيس الدولة (السهر على تطبيق الدستور وتحقيق الأمن والسهر على علاقات تونس بالخارج)، كما لو أن هذه تعتبر مشاريع مميزة، وتارة يتكلم الواحد منهم كما لو أنه رئيس الحكومة القادم: برامج تنموية، اهتمام بالأسرة والشباب، الصحة، التعليم...!

هناك ملفات عالية القيمة وسياسية-أخلاقية بامتياز يمكن لرئيس الدولة أن يفتحها دون عرقلة عمل الحكومة، بل سيكون سندا لها إن قام بذلك. لم يقل لنا أحد من المترشحين بأنه، إضافة إلى مهامه الدستورية المعروفة، يتعهد بأن يفتح حوارا وطنيا جديا ونزيها حول قيمة رؤوس الأموال الوطنية بوصفها ثروة اجتماعية يجب حمايتها وتشجيعها على الاستثمار وعلى مراكمة الأرباح وإعادة استثمارها لخلق مواطن الشغل، وفي مقابل ذلك التصدي الفعلي (وليس الشكلي الانتخابي) لشبكات الفساد والربح المغشوش والاستغلال الفاحش، مع وضع خارطة طريق قانونية وأخلاقية، ملزمة له شخصيا، هدفها مساعدة رؤوس الأموال على إنتاج التنمية دون استغلال زبوني وقرابي وخصوصي لموارد الدولة. ويكون ذلك هو الطريق الفسيح، والطويل نسبيا، نحو إنتاج جيل جديد من المستثمرين المنتجين للثروة الوطنية والاجتماعية، المحبوبين والمتصالحين مع مجتمعهم، لا ناهبين لثروته بأخلاق نزقة يعرضونها يوميا على شاشات التلفزيون دون حسيب أو رقيب. وتلك هي المصالحة الحضارية الحق التي ستكسب تونس أجنحة عريضة.
لم يقل أحد منهم أنه يتعهد، شخصيا، بفتح حوار اجتماعي عالي القيمة حول مفهوم الإدارة ووظيفتها وحالتها اليوم في تونس. لم يقل أحد من هؤلاء بأن الإدارة التونسية صممت من أجل التحكم والمراقبة لا من أجل تسهيل قضاء الناس لحوائجهم. واليوم عندما سقط الاستبداد وفقدت هذه الإدارة سندها في القيام بالوظيفة التي أوكلت إليها، ظهر كل خورها وتخلفها عن

العالم المحيط، فأصبحت عقبة أمام التنمية، وصارت مصبا للوظائف الوهمية، جيشا جرارا لا عمل له سوى إنتاج نكد المواطن وتعطيل التنمية.

لم يقل أحد منهم أنه سيفتح نقاشا وطنيا واسع النطاق يجمع الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الأعراف حول قيمة العمل وقيمة الشغالين كموارد اجتماعية ينبغي إعطاؤها حقوقها. ففي حين نشأت البرجوازية التونسية من رحم الدولة، تنمي ريشها من مواردها لمن وجد إليها سبيلا قرابيا أو زبونيا أو مصلحيا خاصا، فتماهت مع حزبها الدستوري ثم التجمعي المحتكر للسياسة، صانعة لنفسها شبكة علاقات واسعة مع أجهزة الدولة التنفيذية المختلفة، تحولت الكثير من خلايا الاتحاد العام التونسي للشغل شيئا فشيئا، خاصة خلال نظام بن علي، إلى ما يشبه الشعب الدستورية التي تدير بعض المنافع المتاحة في المؤسسة أو القطاع، وتتحصن بمنخرطين -موجودين أحيانا في الشعبة والنقابة- انحدر مفهومهم للعمل النقابي إلى الدفاع عن المصالح الضيقة وأحيانا لحماية رداءة الخدمة. يجب على هذه القضايا أن تطرح عاليا كقضايا وطنية، وأن يتحول العمل إلى قيمة بالغة الأهمية عند الشغيل في حد ذاته، لا تضاهيها إلا قيمة رعايته عند صاحب العمل. هذا ليس هدفا مثاليا بل أفق حضاري ممكن التحقيق تدريجيا، بإصرار الرئيس. وقد كان هذا الأفق موجودا في فجر الاستقلال.
لم يقل أحد منهم بأنه سيرسي حوارا وطنيا من أجل خارطة طريق حضارية استراتيجية، ملزمة لكل رئيس بعده تحدثه نفسه بالترشح لرئاسة الجمهورية، أو يرشحه حزبه لهذه المهمة. وهذه الخارطة الاستراتيجية المستقبلية، من 30 سنة على أقل تقدير، هي التي يُستفتى عليها الشعب ويلزم بها من يترشح لقيادته نحو تحقيقها، وهي أكبر من الرئيس ورؤساء الحكومات والأحزاب. إنها أفق لتونس ومستقبل لأبنائها.

كل من ليس له هذه الآفاق إنما هو مُرشح الخيوط الخفية التي لا تتقاطع طموحاتها مع هذه الآفاق، والتي ستوفر له، عندما يجلس على كرسي الرئاسة، المستشارين والخبراء ورؤساء الدواوين. ثم يبدأ النقاش في الهوامش والتفاصيل واللجان....وسننتظر ترشحات 2024 كي تبرز لنا من خلال الترشحات وجوه تحمل طموحات تونس الحضارية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115