انتخابات رئاسية بنكهة الفايسبوك... (الجزء الأوّل)

بقلم: محجوب لطفي بلهادي
باحث مختص في التفكير الاستراتيجي
تفصلنا أسابيع قليلة عن موسم الهجرة إلى قرطاج.. سبقه «ربوخ» تونسي شارك في صنعه

قرابة المائة مٌرشّح لاعتلاء ركح مسرح قرطاج الرئاسي هذه المرة ضمن جوقة نحاسية امتزج فيها ابن الشعب البسيط الذي أغوته أضواء منارة «عليسة» بالدّاعية المتشدّد، وأهل العرافة بأصحاب الشبهة، واليساري بالاسلامي والبورقيبي باليوسفي.. خلف هذا المشهد الانتقالي المخمور الحامل لعلامة «صٌنع فى تونس» تفطّن فجأة وبعد فوات الأوان أهل الحلّ والعقد في الانتخابات - الهيئة العليا للانتخابات وأختها الصغرى الهايكا- بخطورة ما يجري منذ عدة أشهر داخل الفضاء الرقمى من حملات تشويه متبادلة مدفوعة الأجر، أبطالها ذباب الكتروني أزرق زرقة شعار الفايسبوك، تٌسيّرها غرف عمليات خفية تشتغل على إيقاع طنين كليب شهير لإحدى المترشحات للانتخابات الرئاسية: «تورّى نورّي» حتى وان كان المستور مفبركا من ألفه الى يائه...

قبل التعرف عن كثب عن مختلف البهارات والوصفات الفايسبوكية التونسية المستخدمة فى المسار الانتخابي الراهن - سيكون موضوع الأسبوع القادم - سنتوقف في هذا الجزء من هذا المقال حول مدى صدقية فرضية الفوز بانتخابات رئاسية عبر الشبكة العنكبوتية التي يشكك في إمكانية تحققها العديدون وذلك من خلال عرض نماذج انتخابية رئاسية مقارنة...
بداية قصة التبادل النفعي Symbiose بين الانتخابات الرئاسية والشبكة العنكبوتية تزامن مع الانتخابات الرئاسية الأمريكية لسنة 2008 التى فاز بها الرئيس الامريكي السابق «باراك أوباما» قبل ان تتخذ منحى دراماتيكي أثناء الحملة الانتخابية «لدونالد ترامب» سنة 2016 أو ما يعرف بفضيحة «كمبريدج أناليتيكا»...

وبالرغم من أن المٌجسّمات التفاعلية للجيل الثاني من الواب 2.0 من مواقع رقمية ومنصات للتواصل الاجتماعي لم تمض على ظهورها بضع سنوات فقط فإن الرئيس الامريكى السابق باراك أوباما وفريقه الاتصالي حققا أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية لسنة 2008 أول اختراق تاريخي في يوميات الانتخابات.. فبعد أن كانت الميادين والساحات والشوارع تٌشكّل مركز الثقل الرمزي للحملات الانتخابية بشتى أنواعها في مختلف أصقاع العالم أمسى الفضاء الافتراضي منذ ذلك التاريخ «الأغورا» الأثينية الجديدة La nouvelle Agora لجميع الحملات الانتخابية والتحكم فيها دون استثناء من خلالها تتم عمليات مغنطة وتوجيه الحشود الانتخابية عن بعد باستخدام أدوات النيوميديا الرهيبة...
فالاستفادة القصوى من شبكات التواصل الاجتماعي عند وضع استراتيجيات التسويق الانتخابي موضع التنفيذ، تمنح لصاحبها:

- إمكانية الوصول السريع الى شرائح عمرية أو اجتماعية ذات خصوصية من الجسم الانتخابي كفئة الشباب أو الأقليات العرقية الخ ..

- إمكانية استخدامها كرافعة مهمة للتعبئة المالية Lever des fonds كما حصل في انتخابات 2008 في الولايات المتحدة .

- إمكانية اعتمادها كأداة هجومية رهيبة في وجه الخصوم كما يحدث اليوم في بلادنا.

ولئن كانت انتخابات الرئاسية الأمريكية لسنة 2008 تّشكّل سابقة أولى من نوعها في المغازلة الشبكية المباشرة والممنهجة بين مرشّحي السباق الرئاسي والنّاخب الامريكى عبر مواقع الفايسبوك أو Myspace فان التقنيات والكلمات المفاتيح والاستراتيجيات الرقمية المعتمدة كانت في حدّ ذاتها تستبطن ملامح بداية ثورة اتصالية عميقة في عوالم الانتخابات، خزّانها الحقيقي قواعد البيانات الخصوصية للناخبين.. فليس من باب المصادفة ان يٌدير حملة أوباما أنذاك الشاب Chris Hughes أحد مؤسسي فايسبوك مما دفع بجميع الملاحظين بنعت الانتخابات الأمريكية «بانتخابات فايسبوك» بامتياز.. وليس من باب المصادفة أيضا ان ينجح هذا الفريق من استمالة قرابة 70 ٪ من الجسم الانتخابي الشبابي .. استمالة عرفت

كيف تٌوظف الشخصية الانسيابية لأوباما وكيف تصنع منه شخصية متماهية مع نجوم البوب Pop stars من خلال إطلاق كليب « Yes we can » على قناته الخاصة في اليوتيوب الذي عرف انتشارا منقطع النظير تجاوز حدود الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.. فكانت النتيجة نجاح الفايسبوك الناعم فى صنع أول رئيس أمريكي من أصول افريقية...
فإمكانية صناعة الرّؤساء عبر شبكات التواصل الاجتماعي التى أمست متاحة منذ 2008 أسالت لعاب العديد من الفاعلين فى المسار الانتخابي بمناسبة الانتخابات الرئاسية الأمريكية لسنة 2016، فتتالت التطبيقات الذكية والاختبارات النفسية الموجهة بغاية رسم مخطط شخصي دقيق لرواد الفايسبوك او غيرها من المنصات «الخداع والتنسنيس الاجتماعي» ...

من بين أبرز هذه الاختبارات على الإطلاق التي صٌمّمت خصيصا لمساعدة دونالد ترامب على الفوز في انتخابات 2016 الرئاسية تلك التي وردت تحت عنوان «هذه حياتي الرقمية» لأستاذ علم النفس «ألكسندر كوغان» الذي كان يعمل لحساب شركة «كامبريدج أناليتيكا» المتخصصة في الشأن الانتخابي، المقرّبة كثيرا من أوساط المحافظين والمتهمة بالتّحايل على إرادة ملايين الناخبين الأمريكيين فى انتخابات 2016 وبتواطؤ مباشر من فايسبوك لصالح المرشح دونالد ترامب حيث «يسأل المشارك إن كان يحب أن يعبر عن مشاعره، أو تحدوه رغبة بالانتقام، أم أنه هادئ أو كثير الكلام، وإن كان يمضي في مشاريعه إلى النهاية، أو يهتم بالفنون. أجاب نحو 320 ألف شخص على أسئلة الاختبار الذي أعده أستاذ علم

النفس الكسندر كوغان الذي كان يعمل لحساب شركة كامبريدج أناليتيكا التي أسسها محافظون أميركيون بينهم ستيف بانون مستشار ترامب المقرب قبل إقالته. وبما أن اختبار «كوغان» كان يتم تشاركه على فيسبوك، فقد كان يجمع أكثر بكثير من البيانات التي يوفرها أولئك الذين يشاركون فيه طوعا. في تلك الفترة في 2015، كان يمكن لمثل هذه التطبيقات أن تجمع لا فقط معلومات عن المشاركين في اختبار ما، وإنما كذلك عن كل أصدقائهم على فيسبوك مما أتاح جمع بيانات 50 مليونا من مستخدمي فيسبوك: اسمهم، أذواقهم، مكان إقامتهم، صورهم وشبكة علاقاتهم. تستخدم خدمات التسويق مثل هذه المعلومات لإيصال الإعلانات إلى مستهلكين قد يهتمون بمنتجات مثل السيارات والملابس والفنادق. واستخدمت كذلك

في الماضي للتعرف على الناخبين المحتملين. لكن «كوغان» و«كامبريدج أناليتيكا» استخدما البيانات من اجل رسم مخططات شخصية انتخابية وقاعدة بيانات تتيح لفريق حملة « ترامب» الاطلاع على معلومات لم يسبق لأحد على الأرجح أن اطلع عليها عن مستخدمي فيسبوك وتوجيه رسائل انتخابية تستفيد من أفكارهم ومخاوفهم وأذواقهم...».
على نقيض الإخراج المشهدي الفايسبوكي الرّامي الى النفاذ الى وجدان الناخب الامريكي عبر المغازلة أو الإبهار الذي انتهجه باراك أوباما في سنتي 2008 و2012، فان دونالد ترامب اتبع نهجا تواصليا تويتريا فظا، عدوانيا وصادما بنعت خصومه السياسيين والإعلام وكل من يعترض طريقه نحو البيت الأبيض بأقبح النعوت.. مقاربة تواصلية قد تكون متماهية أكثر مع الثقافة الأمريكية الاستهلاكية القائمة على السلعنة والإثارة...

اليوم، بما يتوفر لمنصات التواصل الاجتماعي من خوارزميات جد متطورة وقدرات رهيبة على التأثير على الأفراد والجموع والتحكم في قراراتهم فانه أصبح من الواضح بأن الطريق نحو السلطة يمرّ حتما عبر بوابة الفايسبوك وغيرها من الشبكات الاجتماعية...
فهل ينطبق ذلك بالضرورة على مشهدنا الانتقالي المترنح والمخمور ؟

(يتبع)

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115