فلو انتهى مساره السياسي سنة 2010 لوصف بأنه كان إحدى الشخصيات المهمة و الرئيسية في بناء الدولة الوطنية التي أسسها الحبيب بورقيبة و رفاقه غداة الاستقلال. ولو انتهت مسيرته بنهاية سنة 2011 لكان اعتبر أول زعيم عربي يسلم السلطة تلقائيا بعد انتخابات حرة و شفافة و يؤمن الإنتقال السلمي للسلطة. و لو انتهى مساره السياسي بنهاية 2014 لكان وضع في مصاف كبار السياسيين بتأسيسه حزبا سياسيا تمكن في ظرف وجيز من تحقيق التوازن السياسي والإنتصار في الإنتخابات البرلمانية و الرئاسية.
هكذا شاء القدر أن تنتهي المسيرة الإستثنائية للرئيس الباجي قايد السبسي بالطريقة الأكثر ألقا و تميزا في ذكرى الجمهورية بالذات و كأول رئيس منتخب بصورة ديمقراطية من طرف الشعب في تاريخ تونس.
نصير الثورة و حاميها
لقد مثل تعيين السيد الباجي قائد السبسي رئيسا للحكومة المؤقتة في بداية شهر مارس 2011 منعرجا و نقطة تحول تاريخية في تاريخ الثورة التونسية. فعلى عكس تردد و تلكؤ الحكومة الرخوة للسيد محمد الغنوشي في الإستجابة لإستحقاقات الثورة التونسية كان الرئيس الراحل حازما و حاسما و أعطى دفعا منقطع النظير للثورة. فقد أدان بشدة في أول ندوة صحفية له الرئيس المخلوع واصفا إياه بالجندي الفار deserteur داعيا إلى تسليط أقسى العقوبات عليه. و بادر بالإيقاف التحفظي لأبرز شخصيات وأركان النظام السابق و صادر ممتلكات 114 شخصية مهمة قاطعا بصورة حاسمة و جازمة اي مجال للثورة المضادة بسجنهم و تجفيف مواردهم المالية. و منذ توليه رئاسة الحكومة كانت له الشجاعة و الجرأة في الإستجابة لمطالب اعتصامات القصبة 1 و2 و التي كانت مواصلة للثورة و استكمالا لها. و على عكس توجه البعض إلى انتخاب رئيس للجمهورية على قاعدة دستور 1957 و الذي رأى فيه البعض عودة للحكم الفردي بدستور استبدادي قرر الرئيس الراحل تنظيم انتخابات المجلس التأسيسي و حدد له تاريخ 24 جويلية 2011 باعتباره مطلبا من مطالب الثورة التي ثارت على النظام الرئاسي الإستبدادي. و رغم ما قيل عن المجلس التأسيسي فقد كان رهان الباجي صحيحا و توجت أشغال المجلس التأسيسي رغم الالام و الجراح بالمصادقة على دستور من أبرز الدساتير الديمقراطية في العالم. كما شكل حكومته من وزراء التزموا بمن فيهم هو نفسه بعدم الترشح للإنتخابات و طالب الوزراء السياسيين بالإستقالة. كما أصدر مرسوما بإرساء الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة و الإصلاح السياسي و الإنتقال الديمقراطي باعتبارها هيئة شبه تشريعية استشارية تراقب أعمال الحكومة المؤقتة أثناء المرحلة الإنتقالية استجابة لما طالب به مجلس حماية الثورة المتركب آنذاك من المنظمات الوطنية والأحزاب التي شاركت في الثورة ودعمتها..
الأب الروحي للديمقراطية التونسية
لم تكن القناعات الديمقراطية لدى السيد الباجي قايد السبسي جديدة و وليدة الثورة التونسية بل كانت متأصلة فيه منذ زمن بعيد. فلقد كان منذ بداية السبعينات قياديا بارزا في التيار التحرري الذي تزعمه أحمد المستيري داخل الحزب الإشتراكي الدستوري بزعامة الحبيب بورقيبة. و قد انشق عنه سنة 1974 و أسس مجلة démocratie التي كانت لسان الدفاع عن الحريات و الديمقراطية في تلك الفترة فيما أسس أحمد المستيري حركة الديمقراطيين الإشتراكيين. و قد أغرته سياسة الإنفتاح السياسي و التبشير بالديمقراطية التي وعد بها زين العابدين بن علي على إثر انقلاب 7 نوفمبر كما أغرت أغلب الفعاليات السياسية آنذاك. فانخرط فيه مثله مثل عديد الشخصيات و أصبح رئيسا لمجلس النواب. و لكن سرعان ما تبين له أنه مجرد سراب و خديعة فقفز من المركب مبكرا قبل أن يغرق في بحر من الإستبداد و الفساد.
يمكن القول أن أكبر إنجازتاريخي للسيد الباجي قايد السبسي في المرحلة الإنتقالية هو إنجاز انتخابات حرة وديمقراطية وشفافة يوم 23 أكتبور 2011 لأول مرة في تاريخ تونس. لقد كان وهو يحث الخطى مسرعا نحو هذا الموعد التاريخي يستحضر بطعم العلقم التجربة المجهضة لانتخابات 1981 والتجربة المغدورة لإنتخابات سنة 1989 و التي كان هو بالذات طرفا مهما فيهما. ربما كان يقول في نفسه «الثالثة ثابتة». لذلك وضع كل خبرته و تجربته و طاقته لهذا الموعد التاريخي من توفير الظروف الأمنية و إرساء الهيئة المستقلة للإنتخابات و إعداد القانون الإنتخابي و المراسيم 115 و 116 و الإعداد اللوجستي و غيرها من التحضيرات. ربما كان يقول في نفسه «هاذه و أنهي .. هاذه و أختم» و لكن القدر كان يخفي له ما يخفيه.
سوف تذكر الأجيال التونسية و العربية أن الباجي قايد السبسي هو أول رئيس عربي سلم مقاليد الحكم بتلقائية وسلاسة تليق بأعرق الديمقراطيات على إثر انتخابات ديمقراطية شهد العالم بنزاهتها. و لا يزال البعض يعتقد أن الباجي ارتكب خطأ جسيما بتسليمه السلطة للإسلام السياسي عدو الديمقراطية. لا شك أنها مخاطرة «العمر» من طرف هذا الزعيم الثمانيني. و ربما كان سيذكر كشخصية سيئة الصيت سلمت السلطة لأعداء الديمقراطية فقضت عليها في المهد. و لكن مرة أخرى راهن الباجي قايد السبسي و نجح في رهانه. لم تكن قناعاته الديمقراطية عابرة و مهتزة بل كانت ثابتة و متأصلة. كما كان يمتع بالتبصر و سداد الرأي و الشجاعة. و الشجاعة هي لعمري أفضل الخصال لدى الرجال و النساء.
إن الباجي قايد السبسي بتنظيمه لإنتخابات حرة و ديمقراطية لأول مرة في تاريخ تونس و بتكريسه للتداوال السلمي على الحكم ( و هما الركيزتان الرئيسيتان للديمقراطية) قد حقق شرخا تاريخيا عميقا في منظومة الاستبداد و فتح الباب على مصراعية لإرساء الديمقراطية في تونس.
الباجي : الوحدة الوطنية في عصر الديمقراطية
تمثل فكرة الوحدة الوطنية «الصماء» أهم ركائز الفكر السياسي للبورقيبية. فقد كان بورقيبة يعتقد بأن توحيد كافة فئات وعروش الشعب التونسي ضرورة استراتيجية لدحر المستعمر في مرحلة اولى و بناء الدولة الوطنية في مرحلة ثانية و تحقيق الرقي و الإزدهار.
لقد أصبحت فكرة «الوحدة الوطنية» مستهلكة و مبتذلة في أخر العهد البورقيبي و في الفترة النوفمبرية حيث أصبحت لا تعني سوى الوحدة حول الزعيم الأوحد المستبد و الحزب الزبوني الحاكم و البطانة التي تدور في فلكه.
بعد تركيز الدولة الوطنية شهدت البلاد انقسامات عديدة سواء خلال الصراع اليوسفي -البورقيبي أو الصدام مع قوى اليسار أو مع الإتحاد العام التونسي للشغل. و لكن الصراع الذي هيمن على البلاد بدون منازع في الثلاثين سنة الماضية كان بين الديمقراطيين من جهة ( بجناحيهم الليبرالي و اليساري) وبين الإسلاميين. ولئن تعرض الإسلاميون للإقصاء و القمع قبل الثورة فإنهم سعوا إلى إقصاء خصومهم و التعسف عليهم بعد الثورة. لقد كان هذا الإحتراب و التنازع بين أهم قوتين سياسيتين في البلاد قنبلة موقوتة كادت تنفجر في كل لحظة مفجرة الوطن إلى قطع متناثرة.
لقد كان وعي الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي بهذه المعضلة التاريخية للثورة التونسية مبكرا و حادا. مما دفعه إلى العمل على نزع فتيل الصراع و الإحتراب و لعب دور تاريخي فيما سمي بالتوافق بين الإسلاميين و الديمقراطيين بدءا بلقاء باريس بينه وبين زعيم حركة النهضة وصولا إلى تشكيل حكومة مشتركة بعد الإنتخابات. لم يذهب الباجي إلى هذه المقايضة التاريخية عاري اليدين. بل سار إليها مثل النبي المسلح بعد أن أسس حزبا عتيدا (نداء تونس) و جبهة سياسية قوية (جبهة الإنقاد) ثم بعد أن حقق انتصارا منقطع النظير في الانتخابات الرئاسية و التشريعية مما جعله في موقع مريح للتفاوض.
و يعتبر السيد أحمد المستيري أول شخصية سياسية تقاربت مع الإسلاميين و هم الذي صوتوا له بكثافة سنة 1981 و تكونت علاقات متينة بين حركة الديمقراطيين الإشتراكيين و الحركة الإسلامية حتى بداية التسعينات. و قد دعا زين العابدين بن علي الإسلاميين إلى جبهة وطنية انتخابية سنة 1989 لم يكتب لها ان تنجح رغم موافقتهم عليها بعد رفض أحمد المستيري ئلك الجبهة الإنتخابية. و قد سعى السيد أحمد نجب الشابي مهندس إضراب 18 أكتبور 2005 إلى توافق تاريخي مع الإسلاميين من أجل إرساء الديمقراطية في تونس. وصولا إلى الرئيس الباجي قائد السبسي الذي كرس تلك الفكرة على أرض الواقع. فالتوافق أو التعايش لا يعني فسخ التناقضات و خطوط التماس بين المشاريع المجتمعية المتناقضة بل هو القبول بالعيش المشترك و القبول بالأخر و نبذ الإقصاء في إطار من الحرية و ركائز الجمهورية و مبادئ الديمقراطية. فالوحدة الوطنية في إطار الديمقراطية هي العيش المشترك ضمن وطن واحد بين جميع التونسيين مهما كانت مشاربهم و توجهاتهم و انتماءاتهم الإجتماعية والجهوية.
رمز السيادة الوطنية : «أمك و أبوك
هي تونس»
يمثل تدخل البلدان الأجنبية في الشؤون الداخلية لبلد ما وانتهاك حرمته الوطنية أخطر الآفات و المصائب التي تحدث لوطن ما كما نشاهد من حولنا. و في حالات الصراع الحاد الذي تعيشه بعض الأوطان تتغذى نزعات الإستقواء بالقوى الأجنبية لمغالبة الخصوم الوطنيين والإنتصار عليهم. و قد مرت بلادنا بظروف عصيبة من الصراع و الإحتقان السياسي بين
سنوات 2012 و 2014 أغرت وشجعت عديد الأطراف الإقليمية و الدولية بالتدخل السافر لتغليب طرف ضد طرف و هي في الحقيقة لتغليب مصالحها الخاصة ضد مصلحة شعبنا و مواطنينا.
وتجمع عديد المصادر المتطابقة أن الرئيس الباجي قايد السبسي لم يخضع البتة للإغراءات والضغوطات للتدخل الأجنبي المكشوف أو المتستر بالرغم من التهديد الخطير الذي كان يستهدف لا فقط مشروعه المجتمعي و السياسي بل حياته شخصيا. و انه عول دائما على وحدة صف التونسيين و حوارهم و توافقهم وتضامنهم باعتباره الضامن الوحيد لتجاوز الأزمات و هو صاحب المقولة الشعبية الشهيرة «عندما تحك الركب كل واحد يعرف من أبوه و من أمه..و انتم تونس هي أمكم و أبوكم». و يجمع الكثير ممن عرفوا الرجل بأنه كان شديد التعلق بالسيادة الوطنية و رافضا لأي تدخل أجنبي في الشأن الوطني من أي طرف كان
إن ما تشهده المنطقة من تدخلات أجنبية سافرة في بلدان الجوار و السعي المحموم لبعض المحاور الإقليمية و الدولية لوضع مواطئ القدم و التدخل السافر في البلدان تجعلنا نضع وصايا الرئيس و منهجه في بؤبؤ العين لأن التدخل الأجنبي هو خراب للأوطان و إيذان بسقوطها فريسة للمصالح الأجنبية الدخيلة.
إن حياة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي و كفاحه يشكلان عنصرا أساسيا في تجربة الثورة التونسية و في التاريخ المعاصر لبلادنا. لهذا أحبه التونسيون و لم يعد ملكا فقط لعائلته الطبيعية والسياسية و أنما ملكا لكل التونسيين وجزءا من تراثهم. لذلك رافقه كل التونسيات و التونسيين إلى مثواه الأخير في جنازة وطنية مهيبة رفرفت عليها مشاعر الوفاء والفخر والإعتزاز بالوطن.
إن أفكار الزعيم الراحل و توجهاته و تراثه تمثل إرثا ونبراسا يهتدي به كل التونسيين. ومن يكرم الزعيم يتبع خطاه.