على جائزة نوبل للسلام سنة 1984 ، تقديرا لنضاله السلمي ضد الميز العنصري، قوله: " حين جاء المبشرون الى افريقيا ، كانوا يحملون الانجيل وكنا نملك الارض ، وقالوا "لنصلي معا" ، فأغمضنا اعيننا للصلاة ، وحين فتحناها ، وجدناهم قد تركوا لنا الانجيل ولكنهم أخذوا الارض".
استحضرني هذا القول وانا استمع الى خطاب وزير الخارجية الامريكية، مايك بامبيو، في الجامعة الامريكية في القاهرة في بداية هذه السنة ،حين أعلم الجميع بانه مسيحي من الكنيسة الانجيلية وانه يحتفظ بالكتاب المقدس مفتوحا بمكتبه ليذكره بالله وكلمته والحقيقة، وان الدين سيكون له دورا كبيرا في السياسة الامريكية....
ثم انتقد سياسة باراك اوباما الذي عبّر قبل عشر سنوات (2009) في نفس الجامعة، عن حاجة امريكا الى علاقات جديدة مع العالم الاسلامي ، قائلا ان الرئيس السابق "أساء التقدير والفهم وانه "سيضبط الخطوط العريضة للسياسة الامريكية التي قوامها: حماية اسرائيل من "صواريخ حزب الله" والخطر النووي الايراني ، الى جانب الاشادة بالقبضة الامنية للانظمة في المنطقة و"جديتها" في اتباع السياسة الامريكية في مواجهة ايران، مهما كانت قتامة سجلها في مجال حقوق الانسان ، لذلك خصص جزءا مهما من خطابه للإشادة بعبد الفتاح السيسي ، ودوره في تعزيز "الحرية الدينية" وتشجيع التطبيع مع الدولة العبرية ، ثم امتدح دولة الامارات العربية التي عزفت النشيد الوطني الاسرائيلي بمناسبة فوز لاعب جيدو شارك لاول مرة في دورة رياضية سنة 2018،
في المحصلة ، مصلحة الولايات المتحدة ، التي جاء بها دونالد ترامب عبر شعاره "امريكا اولا" ، تقتضي ، حسب رأي ادارته ،تمشيا مخالفا لذلك الذي حاول سلكه باراك اوباما قبله ، والتقرير السنوي حول اوضاع الديمقراطية وحقوق الانسان في العالم الذي تصدره وزارة الخارجية الامريكية والذي تربطه امريكا ، احيانا، بتقديم الدعم للدول، يشهد على تغيير في سياسة ادارة ترامب(تقرير 2018).
• مصطلحات جديدة لتبرير الاحتلال:
لأول مرة ربما منذ نهاية الحرب الباردة ، يذكر التقرير بوضوح أن سجل بلد ما في مجال حقوق الانسان لا تؤثر على علاقة ذلك البلد بالولايات المتحدة وان هذه الحقوق لا تحتل اي مرتبة في ادارة ترامب ، ويؤكد مايك بامبيو ،وزير الخارجية، في مقدمة التقرير بوضوح ، ان التعامل مع الحكومات لا يحدده مدى احترامها لهذه المبادئ بقدر ما يحدده"تعزيز المصالح الامريكية."
اول ما يثير الانتباه في التقرير ، هو انحيازه التام والواضح لإسرائيل، بل وايضا الى سياستها الاستيطانية، حتى لغويا : حيث تخلى التقرير عن عبارة "الاراضي المحتلة التي كانت تستعملها وزارة الخارجية لمدة الاربعة عقود الماضية حين يتعلق الامر الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية ، حتى أن اراضي الجولان ، تحولت ، حسب التقرير من "ارضي تحتلها اسرائيل " الى اراضي "تسيطر عليها اسرائيل" ، كان ذلك قبل ان يوقع الرئيس الامريكي على اعلان يعترف بسيادة الدولة العبرية على هضبة الجولان التي احتلتها سنة 1967 وضمتها سنة 1981، وقد اشار وزير الخارجية ، مرة اخرى الى البعد الديني للمساندة وذلك في مقابلة مع سي بي أن في 21 مارس 2019،حين اشار الى ان الله قد يكون بعث بالرئيس ترامب من اجل "انقاذ الشعب اليهودي".
التيار الانجيلي ، الذي لا يهتم بحقوق الانسان الا من وجهة نظر دينية، هو التيار المسيطر في ادارة الرئيس ترامب ، كما يشكل جزءا مهما من الناخبين ، فحسب مركز "بيو" للدراسات Pew Research Center ، هم يمثلون ربع المصوتين ، وصوّت أكثر من 80 بالمائة منهم لفائدة ترامب في الانتخابات الماضية ، رغم عدم تدين هذا الاخير وتجاوزاته " السابقة التي اعتبرت "غير اخلاقية" وذلك خوفا من انتصار هيلاري كلينتن ، التي "تشجع الاجهاض والمثلية والتغييرات الجنسية"
فقد وجد على الارجح اليمين المتطرف الذي يمثله دونالد ترامب ، رجل الاعمال الكبير ، الرئيس المثالي الذي يحقق بعض طموحاته، فمنع المثليين من الدخول الى الجيش وعيّن قضاة محافظين وضيّق على الاقليات الجنسسية والعرقية...
• إعادة النظر في مفهوم حقوق الانسان:
بامبيو ، وزير الخارجية، كوّن مؤخرا لجنة لإعادة النظر في مفهوم حقوق الانسان ، الذي قال عنه ، انه رغم مرور أكثر من سبعين سنة على الاعلان العالمي لحقوق الانسان ، فان مفاهيمه ، عوضا ان تتبلور ، فقد انحرفت عن مهامها الاصلية "مع انتشار المطالبات بحقوق الانسان" مؤكدا على اهمية "القانون الطبيعي "و"الحقوق الطبيعية" وهي مرادفات اثارت تخوف المدافعين عن حقوق الانسان ، لأنها كثيرا ما تحيل الى مفاهيم دينية ، اتت قبل تعميم المعاهدات الدولية ،كما تحيل الى "الاباء المؤسسين " ومفهومهم الضيق ، وهي ترفض حقوق مثل حق المرأة في جسدها وتبرر العنصرية .... خاصة وان نائب الرئيس الامريكي ، مايك بانس ، يفضل الحرية الدينية على أية حرية اخرى ، باعتبارها "حريتنا الاولى"،
يمكن القول ان الرئيس ترامب وادارته اليمينية تريد الاجهاض على كل القيم التي اسس عليها الغرب نموذجه الديمقراطي بعد الحرب العالمية الثانية، حين ادركت البشرية ان الوحشية التي خلفت الملايين من الضحايا لابد ان يقع تلافيها مستقبلا عبر اعلان عالمي لحقوق الانسان (1948) يدافع عن القيم المشتركة التي تساوي بين كل البشر في الحقوق والكرامة والحرية،
خلال فترة حكمه ، يحاول الرئيس الامريكي الانسحاب من كل المعاهدات الدولية ، دعا الى الانسحاب من مجلس حقوق الانسان التابع للامم المتحدة لانه ادان في مناسبات عدة الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين ، اوقف المساعدات الى دول امريكا الوسطى ، لأنها لم تمنع تدفق المهاجرين ، كما اشارت جريدة "الغاردين" البريطانية لذلك ، خلال الاسبوع الماضي ،قالت الصحيفة ان الادارة الامريكية قد قلصت من مساعداتها الى المنظمات التي تقدم خدمات الاجهاض ، واعتبرت منظمة العفو الدولية ان ما تقوم به الادارة الامريكية في الخارج هو "تسييس لحقوق الانسان " وانها محاولات "لتثبيت سياسة الكراهية التي تنتهجها الادارة الامريكية الحالية ضد النساء والاقليات الجنسية."
لجنة اعادة النظر في حقوق الانسان ، التي اقترحها وزير الخارجية الامريكي وقال عنها ان دورها سيحدد مفهوما جديدا لحقوق الانسان ، تضم عشرة اعضاء ، تسعة منهم من ذوي الخلفيات الدينية ، ورئيستها، ماري أن قولدون ، التي كانت سفيرة بالفاتيكان ، تنتقد بشدة المفاهيم الحديثة لحقوق الانسان ، على اساس انها "علمانية".
• خلفية عنصرية
وبعيدا عن الخلفية الدينية التي لا يؤمن بها ترامب نفسه لكنه يستغلها، فان الرئيس الامريكي بالكاد يستطيع ان يخفي ردود افعاله العنصرية ،خاصة تجاه غير البيض من الامريكيين ، حتى انه اثار ردود افعال غاضبة ،اخيرا، حين دعا اربع عضوات من الكونغرس "الى العودة من حيث أتين. "
وقد عبّر 148 امريكيا من اصول افريقية عملوا كلهم ضمن ادارة اوباما ،من خلال رسالة نشرتها "الواشنطن بوست" ، اخيرا، عن رفضهم "الجلوس مكتوفي الايدي تاركين الرئيس ترامب يسمم الديمقراطية والتحريض ضد المرأة والاجانب" داعين المرشحين الى الرئاسة القادمة الى دعم الديمقراطية من خلال "تكريس المساواة العرقية".
لكن يرى الكثيرون ان ترامب ليس غبيا وان خطابه ليس ردة فعل غاضبة وغير محسوبة ، صادرة عن رئيس مستفز واخرق ، بل هي خطة انتخابية محكمة ، تتفق ومزاج العديد من الناخبين الامريكان ، الرافضين للمهاجرين وللعديد من الحريات التي تحققت منذ تظاهرات الحركة المدنية التي بدأت في مطلع ستينيات القرن الماضي، مثل المساواة التامة بين الجنسين والمساواة بين الاعراق.
ورغم ان حقوق الانسان لم تكن من اولويات الادارات الامريكية المتعاقبة وانها كانت مرتبطة دائما بالمصلحة الامريكية ، وانها كانت احيانا تستعمل "لـتأديب " الانظمة المارقة " الا اني لا اعتقد انه في التاريخ الحديث لم يسبق ان حدثت استهانة صريحة من قبل رئيس امريكي وادارته بالمعاهدات الدولية و بحجم الانتهاكات الجسيمة التي يتعرض لها اشخاص واحزاب ومنظمات ،،،داخل الولايات المتحدة وخارجها، وهو ما سيشكل خطرا على مستقبل هذه الحقوق في العالم ، بحكم حجم دور الولايات المتحدة وبحكم تصاعد التيارات الشعبوية التي يمثل الرئيس ترامب ، احد أبرز مظاهرها.