برج بابل: فبحيث، هناك وداع ديموقراطي ...

حتى الأنظمة الاستبدادية تودع زعاماتها بما يليق بمقامها. وحتى الأنظمة الاستبدادية تحرص على تداول سلمي وسلس للسلطة.

بل أن مصلحتها تكمن في ترتيب البيت الداخلي وتفرض طوقا من القواعد والإجراءات. كل سلطة في الدنيا همها الأول البقاء بأقل قدر من التكاليف. الأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى. يحدث أن تضطرب سلطة سياسية إثر وفاة زعيمها ويحدث أن تؤول الأمور إلى فراغ كبير. ولكن التجربة في العالم العربي أثبتت أن الحرص على ممارسة السلطة بكل التكاليف يواكبه حرص على تداولها بكل التكاليف عدى ما يحصل من انقلابات عسكرية. كل سلطة سياسية تقرأ حاضرها كما تقرأ مستقبلها.

إثر اغتيال السادات في حادثة المنصة وفي عيد وطني للمفارقة سنة 1981 تولى نائب رئيس الجمهورية آنذاك السلطة في ظرف وجيز جدا واستمرت الدولة. حصل نفس الشيء تقريبا عند وفاة حافظ الأسد، أقر البرلمان وبسرعة جنونية نجله رئيسا للجمهورية. قبل ذلك حصل الأمر مع جمال عبد الناصر ومع الهواري بومدين في الجزائر. هؤلاء الذين ذكرتهم على سبيل الذكر لا الحصر حضيوا بجنازات مهيبة مرتبة أحسن ترتيب وحضرتها زعامات دولية وتمت تغطيتها إعلاميا تلاها استلام للسلطة ومنهم من بقي فيها سنين طوال.

وداع الزعماء مثل تنصيبهم طقس مهم من طقوس السلطة. ولا معنى لأي سلطة سياسية دون هذه الطقوس، في الديموقراطيات العريقة كما في الأنظمة الاستبدادية هناك مفاصل لا يمكن تجاهلها. السلطة السياسية كائن حي يعيش من الأفراح والانتصارات كما يعيش من الهزات ومن المآتم. السلطة السياسية ليست فقط علاقات قوة، هي أيضا ظاهرة لغوية بل هي ظاهرة اتصالية ورمزية بكل المقاييس.

تعيش السلطة السياسية من المسرح، بل أنها تضع نفسها موضع فرجة في شكل طقوس مرتبة لا تدع أي مجال للاعتباط. تضع نفسها موضع فرجة لتتأكد أكثر في مخيال من سلموا أمرهم لها، ليقتنعوا بها أكثر وليتعلقوا بها أكثر فأكثر. هذه الفرجة هي اللغة المناسبة لأي سلطة سياسية لتقول لمواطنيها أنها موجودة وأن لها تاريخ وأنها تتجدد باستمرار. لا تتجدد السلطة السياسية بتوزيع الغنائم ولا تتجدد بالأمن والعقاب ولا حتى بالانتخابات فقط، إنها تتجدد بالرموز، بالطقوس، بالاستعراضات، بالأعياد وبالجنائز أيضا. إنها التياتروكراسي أي السلطة ممسرحة كما يسميها "جورج بلاندييه".

وداع الرئيس الباجي قايد السبسي بما يليق به كان وداعا ديموقراطيا. مضمون الوداع كان ضمن سياق ديموقراطي يختلف عن أي وداع لزعيم سياسي في سياق مخالف. كل المؤشرات والرموز دالة على ذلك. تشاء الأقدار أن يكون اخر ختم للرئيس هو ختم القانون الانتخابي الداعي إلى ممارسة الديموقراطية وتشاء الأقدار أيضا أن يغادرنا في يوم عيد الجمهورية، والجمهورية مؤسسة نريدها أن تكون أكثر فأكثر ديموقراطية. وتسلم خلفه مقاليد رئاسة الجمهورية في كنف طقوس ديموقراطية كما رتبها دستور الجمهورية ولذلك كله كان موته جمهوريا. ذات الجمهورية هي التي جعلت معارضيه ومنتقديه يحزنون لفراقه فالخلاف لا يفسد للجمهورية قضية.

وداع الرئيس بما يليق بمقامه ليس فقط وداعا للشخص وليس وداعا للمقام بل هو وداع يأخذ ثوب تجديد للديموقراطية. تحتاج الديموقراطية للموت لتتجذر أكثر ولتعيش أكثر. تحتاج إلى هزات كبرى إلى آلام ليشعر الناس بقيمتها. لذلك خرج التونسيون لوداع رئيسهم دون أي ضغط ودون أي إجبار، خرجوا لأنهم في بلد ديموقراطي لهم الحق في اختيار عواطفهم ولهم الحق في التعبير عنها. خرجوا لأنهم يعتقدون وهم محقون في ذلك أنه اختيارهم في انتخابات ديموقراطية. لذلك فإن وداعهم له بهذه الطريقة هو إعادة انتخابه رمزيا.

كان وداعه جمهوريا، كان وداعه ديموقراطيا...وداعا سيدي الرئيس...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115