برج بابل: عندما يحتاج الوطن إلى بهجة كرة القدم

تشاء الأحداث أن نبدأ بطولة إفريقيا للأمم في كرة القدم في ظروف تكاد تكون مأساوية. مرض الرئيس وإشاعة موته أصابنا بشعور اليتم السياسي

في نفس اليوم الذي نشهد فيه وقوع عمليتين إرهابيتين في قلب العاصمة. كنا على حافة الانهيار والفوضى وكان الناس يأملون سريعا في تغيير عاطفتهم القلقة. وكانوا أيضا ينتظرون البهجة قد تأتي من منتخبنا الوطني لكرة القدم في ثاني مبارياته ضمن دوري المجموعات. سريعا تفطن أغلب اللاعبين إلى ما يجب قوله في مثل هذه الحالات وإلى العبارات التي سوف يكتبونها على صفحاتهم في الشبكة العنكبوتية. قالوا لنا تقريبا اطمأنوا سنعيد لكم البهجة المفقودة وسنثأر من كل من يمس الوطن بسوء، سننتصر، سنبدع وسنأتي لكم بالفرح المفقود. هم الذين يحتاجون إلى إعداد ذهني لمواجهة الخصوم أصبحوا يتسابقون كل بطريقته في إعدادنا الذهني للخروج من القلق العام الذي أصابنا.

غير انتصارات الثورات وانتصارات الحروب وحدها كرة القدم يمكن أن تجعل وطنا في حالة سعادة قصوى. الجزائريون في أبهج لحظات اعتزازهم الوطني، حراك وطني سلمي من أجل الديمقراطية في ذات الوقت إبداع لفريقهم الوطني في بطولة إفريقيا للأمم، وضعية ولا أروع لا يضاهيها إلا حدث استقلال الوطن في جويلية 1962. من المؤكد أن أداء المنتخب الجزائري والموصوف بالأداء البطولي سيعطي للحراك الديمقراطي قوة استثنائية وسيزيد الجزائريين تعلقا بوطنهم وتعلقا بما يحدث لهم منذ فيفري الماضي بقطع النظر عن فوز المنتخب الجزائري ببطولة إفريقيا من عدمه. لقد حصل ما يجب أن يحصل وتشكلت في أذهان الجزائريين فكرة أن إنجازهم الكروي إلى حد الآن لا يقل قيمة عن إنجازهم الثوري. بين كرة القدم والشعور الوطني في الجزائر علاقة قديمة تعود إلى تأسيس فريق جبهة التحرير الوطني في 1958 والذي اعتبر بمثابة وزارة خارجية بأكملها في خدمة الثورة. ويتواصل الشعور بالوطنية الكروية على الطريقة الجزائرية ولكن ببهارات عسكرية عندما قررت وزارة الدفاع إرسال طائراتها محملة بالمناصرين إلى مصر في ذات الوقت الذي يطمح فيه مدرب المنتخب الجزائري إلى جعل الجزائريين يبكون من الفرح إلى النهاية. في تونس وانسجاما مع تاريخنا مع المؤسسة العسكرية أمرت الحكومة بإرسال طائراتها المدنية لنفس الغرض.

بعد ظهور باهت للمنتخب التونسي في دوري المجموعات والذي انتهى بترشحه الهزيل إلى دوري الثمانية أصبح الطلب الشعبي هو إسعافنا ببهجة جماعية مفقودة. وكانت مباراة ثمن النهائي في مواجهة غانا الفريق الذي هزمنا في عقر دارنا في نهائي نفس البطولة في 1965 مباراة استرجاع وطن مفقود. فكرة الفقد كانت في تلك الأيام فكرة مهيمنة على العقول وعلى الأذهان. فقدنا بوصلة الوطن الذي أتعبته خصومات السياسيين وأداؤهم السيء. لا شيء مثير للبهجة سوى انتصار كروي يعيد الأمور إلى نصابها.

عادت الأمور إلى نصابها عندما حقق المنتخب الوطني تفوقا صعبا على المنتخب الغاني القوي ومررنا إلى الدور الموالي. عندها بدأت البهجة في العودة تدريجيا وخرجنا من قلق عام مقيت وتسابقت وسائل الاعلام في إظهار فرحة شعب بأكمله. كل من اسعفته الكاميرا بفرصة التعبير عن مشاعره استعاد فكرة الوطن الماكثة في مخياله بشكل طفولي مرح. الوطن يستعيد عافيته العاطفية ولو إلى حين وهذا من فضائل كرة القدم وحدها. نسترجع وحدنا الوطنية وكأننا نكتشفها لأول مرة، نسترجعها متجاوزين وقتيا فروقاتنا الطبقية والجهوية، فروقات السن والمواقع الاجتماعية، الكل وراء الراية الوطنية التي تحطم أرقاما قياسية في ظهورها على الأجساد.

يكتشف الناس أن النشيد الوطني عندما ينشد لفائدة المنتخب الوطني أضمن وأروع وأبهى من أي نشيد وطني ينشد في ظروف أخرى. هناك الوطنية في كرة القدم وهناك الوطنية في السياسة، الوطنية الأولى لا تثير اختلافات تذكر، هي وطنية تجميعية قادرة على التأليف بين المتناقضات، في حين أن الوطنية السياسية بعيدة عن الثورات وعن الحروب هي وطنية تقودها المصلحة والسياق السياسي فلا نستغرب مثلا الاستماع إلى نشيد وطني واحد إثر خصومة بين كتلتين في البرلمان، كل يغني على ليلاه.

شكلت مشاركة المنتخب الوطني في هذه البطولة فرصة لتنشيط مخيال مغاربي ماكث في الأذهان. ومن الناحيتين هناك رغبة تونسية جزائرية في الوصول إلى لعب نهائي البطولة وهذا ما لم يتحقق فعليا. ولكن الذي تحقق هو هذا التماهي التونسي مع المنتخب الجزائري والعكس بالعكس إلى الدرجة التي جعلت الكثيرين على استعداد لتقاسم الفوز بالكأس مهما كان الرابح على الميدان تقودهم في ذلك مقولة رابطة الأخوة الجزائرية " خاوا خاوا".

مخيال وطني يستدعي الوحدة الوطنية وروح التضامن المفقودة بين افراد الوطن الواحد و مخيال مغاربي يدعو رمزيا إلى التماهي المتبادل بين منتخبين أي بين بلدين، تلك أهم الدروس السياسية التي خلصت إليها مشاركة منتخبنا في بطولة إفريقيا للأمم. ومع هذا كله لنا كرة القدم التي تشبهنا...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115