«الصّورة الفوتوغرافية: توجّه للفعل التّشكيلي»

بقلم: سماح بوشعالة المكني
شهد التّصوير الفوتوغرافي بوادر تحوّل مرحليّة كانت لها إستتباعات جدّ واضحة على الرّؤى والتّوجّهات الفنّية الكلاسيكيّة بحيث مثّلت عاملا

مهمّا في تطوّر الفن التّشكيلي، ورغم هذا التّطوّر فإنّ الفوتوغرافيا لم تُهدّد وجود فنّ الرّسم الذّي حافظ على التّعبير أو التّشكيل بطريقة خطّية إلى جانب التّعامل المُباشر مع المادّة والألوان.
ولعلّ إكتشاف التصوير الفوتوغرافي حَدَثٌ في تاريخ الصّورة، ليتغيّر موقعها من ناحيتين الإستعمال والإستهلاك ولتساهم في نقل الأحداث وتقتحم أغلب المواضيع المرئيّة التي كانت مقتصرة على الفنّ التشكيلي والموجّه لنخبة المجتمع.

فالصّورة الفوتوغرافية هي تسجيل حيّ وواقعي وتاريخي لمواضيع مختلفة. كما تحمل صفة «المطابقة والمشابهة» وتختصّ بوظيفة العمل التوثيقي الذي يُعنى بنقل الواقع. كانت النظرة السّائدة منذ البدايات أنّ الصورة الفوتوغرافية منتوج جاهز تصنعه الآلة، ولذلك كانت موضع تشكيك في جدارة إنتسابها للفنّ. فبدت الصّورة الفوتوغرافية-التّي تستند على الضوء في وجودها- مجرّد إعادة إنتاج ميكانيكي لموضوع ما، وكان أكثر الأسئلة جدلا آنذاك هو كيف يُمكن ربطها بالفنّ دون أن تكون فيها عناصر التخيّل التي تتّصل عادة بأشكال التعبير الفنّية؟

فلئن كان الإعتقاد سابقا بأنّ الصّورة الفوتوغرافية تعتبر إعادة إنتاج للواقع، فإن نموّ التجربة الفوتوغرافية نمى الإحساس بإمكانيات هذه الصنعة وبأبعادها الجمالية، لتتمكّن الصّورة الفوتوغرافية من نحت مسارها المستقلّ ولتلامس جُلّ تفاصيل الواقع بأسلوب وتوجّهات مبتكرة تناولت الخصوصيات التقنية مثل «الحركة» و»السّرعة» و»الوضعيات الصّعبة»... والتي يصعب التوصّل إليها في تجارب الرّسم والفنّ التشكيلي بصفة عامّة.

وتلتمس ذلك منذ نهاية القرن التاسع عشر من خلال تـجارب «إيتيان جيل ماراي» Marey Jule Etienne- و«إدوارد مايبريدج Eadweard Muybridge فـي هذا المجال، من خلال إستعمال تقنية مُستحدثة chronophotographieلفـكّ شفرة اللامرئي واللامُدرك بالعـين المُـجرّدة وإخـضاعه إلى التحليل والتفسـير ويتجلّى ذلك فـي رصد حركة الإنسان والحيوانات، وبالتالي تحليلها وتفكيكها ومن ثمّة إعادة تركيبها.

إنّ ما توصّل إليه «اتيان جيل مراي» و «إدوارد مايبري» وجد صداه في الرسم مع بداية القرن العشرين وخاصة مع المستقبليين Futuristes على غرار «جياكومو بالا» Giacomo Balla والتي تمحورت أعمالهم حول الحركة وعلاقتها بالسرعة والزمن.

إقتحمت الصورة الفوتوغرافية مع بداية القرن العشرين مجال الفن لتصبح عملا فنيّا قائما بذاته، تـُرقَّم وتـُؤَطّر مثل المحفورة أو اللوحة. وتعتبر تجربة «مان راي»Man Ray خير دليل على تطوّرالصورة الفوتوغرافية وتميّزها عن الصور الشخصية والإشهارية. قدّم «مان راي» عددا كبيرا من الصور الفوتوغرافية الفنية، وتتميّز تجربته باستناده على إستقراء الأعمال الكلاسيكية وخاصة أعمال»أنقر» Ingre المرتبطة برسم الجسد الأنثوي.

إحتلّت الصورة الفوتوغرافية حيّزا ومجالا كبيرين في الإبداع التشكيلي المعاصر حيث أصبحت أكثر حضورا من اللّوحة -المفهوم القديم للكلمة- سواء في فنّ التنصيبات أو في فنّ الملصقات أو في غير ذلك من مجالات الفنّ التشكيلي، فلازمت - وإلى حدّ بعيد- نشاط اللّوحة، وأصبحت عنصرا من عناصر إنجازها ومرجعا يُستعان بها من قبل الفنان في غياب النّموذج Le modèle. فكان هدف هؤلاء الفنانين عبر إستعمالاتهم للصّورة الفوتوغرافية، الكشف عن خفايا هذا الواقع ولكن بأساليب مُستحدثة تضمن المعاصرة، ويدعّم «برغسون» Bergson هذا التوجّه بقوله: «الواقع أنّ وظيفة العقل تنحصر في إشرافه على الأفعال، على أنّ الذي يهمّنا في الفعل هو النتيجة: فلا أهمّية للوسائل مادام المرء قد أصاب الهدف.»

وقد تعمّق انخراط الصورة الفوتوغرافية في الفنّ ، ليعتمدها العديد من الفنانين كمصدر إلهام، وليقع تفعيـلها ضمن إملاءاتهم التشكيلية. ولعلّ «بيكاسو» Picassoمن أهمّ هؤلاء حيث اتخذ من الصورة الفوتوغرافية مرجعا بصريّا يتمّ بموجبه استعارة بعض الأعمال الفنية الكلاسيكية مثل لوحة انقر « Le Bain Turk ,Ingre» وتوظيفها ضمن أطر هندسيّة تستجيب لإملاءات توجّهه التكعيبي.

هذا التمشّي التشكيلي المُرتبط بمُعالجة بعض الأعمال الكلاسيكية واعتماد الصورة الفوتوغرافية مرجعا بصريّا تواصل مع تجربة «مارسال دوشان» صورة فوتوغرافية «للموناليزا» وضع لها شاربا، وهي محاولة من الفنان لزعزعة الممارسات التقليدية للفنّ وبعث الإرباك فيها.Duchamp في استعارة لوحة «الموناليزا»، لينقل «دوشان».
وظّفت الصورة الفوتوغرافية في هذا العمل توظيفا ماديّا، لتحتلّ مكانة الألوان الزيتية والرسم الأكاديمي من جهة، وتفرض وضعا مرئيا جديدا يبشّر بميلاد جمالية فنية جديدة.

وقد تواصل هذا البحث التشكيلي في العديد من التيارات الحديثة والمعاصرة، لعلّ أهمّها «الواقعيّة الجديدة» التي استندت على الصورة الفوتوغرافية متجاوزة الأطر الكلاسيكية المألوفة والمتعارف عليها، وهي تستمدّ شرعيّتها من ذات المجتمع لمزيد الالتصاق بالحياة اليوميّة، مُستغلّة ما تُوفّره الصورة الفوتوغرافية من الدقّة والسّرعة في نقل الواقع.
إنّ «التيّارات الواقعية المعاصرة، المنبثقة عن تطوّر الواقعية، تبحث عن صياغة جديدة للفن على صلة مباشرة بالحالة الراهنة للواقع الاجتماعي.»

كما اكتسبت الصورة الفوتوغرافية بُعدا وتمظهرا جديدين مع «البوب آرت»، لتأخذ مكانتها في الفضاء التصويري من طرق تحويلها على شاشات الحرير) ( Les panneaux de sérigraphie عبر تقنية السيريغرافيا (sérigraphie).
وقد أُستخدمت هذه التقنية من قبل «روشنبرغ» Rauschenberg لتكرار تفاصيل وأحداث مُستمدّة من الحياة المعاصرة ودَمجها بمواضيع وصور لأعمال كلاسيكية، وفي ذلك تأثـّر وتواصل مع تجربة «مارسيل دي شامب» Duchamp في استعارته للوحة «الموناليزا» ، لتتكرّر وتتوحّد هذه الصورة مع ما هو مُعاصر وماهو تشكيلي على فضاءات «روشنبرغ».

المُلاحظ في تجربة الفوتوغرافيا التشكيلية يستشفّ تأثّرها البالغ بجميع الميادين تقريبا، لتعرف كذلك الكثير من التّشعّب أضحت فيه هذه الصّورة بمثابة التوجّه Tendanceالذّي عمّ كلّ العالم. كما أبدت هذه التّجربة تأثّرها بالتّوجّهات الفنّية، لذا نجد في الأعمال الفوتوغرافية التّشكيليّة العديد من الإستعارات الفكريّة التّي عهدناها لدى العديد من الإتّجاهات والمدارس الفنّية كالدّادائيّة والوحشيّة والتّكعيبيّة والمستقبليّة وغيرها من المدارس والأساليب من الحداثة إلى المعاصرة. ولا ننسى أنّ مأسسة الفوتوغرافيا التّشكيلية أوجدت لها علاقات جديدة ساهمت في إنعتاق الفن من قبضة اللّحظة الجامدة التّي ينبني عليها الفن الكلاسيكي (النّموذج)، وبذلك يبقى تواجد الصّورة الفوتوغرافية التّشكيلية كردّ فعل على السّائد والمعتاد بالبحث عن المُغاير والمُعاصر، بُغية التّحرّر من موروثات الفن مُستجيبة بذلك إلى منطلقات فلسفيّة ووُجوديّة وإيديولوجيّة تُواكب العصر والواقع. فساهمت جميع هذه المتغيّرات في الجمع بين الفوتوغرافيا وبقيّة الفنون الأخرى لتتلاقح فيما بينها مُعبّرة عن واقع الفرد والمجتمع بتمظهراته المختلفة. فهي تسعى دوما إلى إثبات وجود الفرد وانفعالاته وأحاسيسه داخل العمل الفنّي،

مُعبّرة عن ذاتيّة ليست وليدة اللّحظة وإنّما هي جملة التّرسّبات البصريّة والفكريّة، يتفاعل فيها الوعي واللاّوعي مع التّكنولوجيّات المُبتكرة. فهي تمتاز بخروجها عن المعهود وعن المعايير المُحدّدة لتجعلها في حركة دائمة التغيّر.

وتُبدي الفوتوغرافيا التّشكيلية المعاصرة تأثّرها واستعانتها بأدوات وتقنيّات ومجالات متنوّعة في التّدخّل على الصّورة وذلك بمجموعة آليات وأدوات ضوئيّة أو رقميّة أو غيرها ممّا أسهم في تحقيق إنجازات إبداعيّة مُبتكرة، فهذه الآليّات أحدثت نقلة نوعيّة وساهمت في الحدّ من العوائق التّي تعترض الفنّان في تقديم رؤى جماليّة مُتغيّرة ومُبتكرة تتلاءم مع روح العصر، فهي تستند إلى ثقافة جديدة جمعت بين التّاريخ (فكريّا وفنيّا وحضاريّا) والتّكنولوجيا المعاصرة لغاية تجاوز الشّكلانية المُغلقة والتّقليد واجترار القديم.

هكذا مهّدت المراحل مجتمعة الأرضيّة المُلائمة لنشأة النّظرية التّصويريّة الجديدة متمثّلة في الصّورة الفوتوغرافية التّشكيلية التّي تنطلق بمعاني ودلالات متعدّدة وثورة معرفيّة أدّت في النّهاية إلى ظهور مصطلح «المصوّر التّشكيلي» صانع البدائل الفنّية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115