برج بابل// الثأرُ، العطفُ والنقاوةُ: خارطة العواطف الانتخابية في تونس

لكل انتخابات مفاتيحها الكبرى، بل لكل انتخابات سلّة من العواطف يتم تشكيلها وإدارتها بحيث تكون أحد أهم موارد العرض الانتخابي للمترشحين. للتذكير نشير

إلى أن انتخابات 2011 كانت انتخابات الاعتراف بالجميل لحدث الثورة ولأولئك الذين بخطابهم قدموا أنفسهم كضحايا لنظام سابق. الاعتراف هو حالة عاطفية يقدم فيها الناخب صوته عربون وفاء لمن يعتقد أنهم جديرون بهذا الإحساس في سياق عاطفي ثوري. وللتذكير أيضا فإن الخوف على الدولة كان مفتاح انتخابات 2014. وهنا برز مصطلح إرجاع هيبة الدولة ضمن مخاوف كبيرة من ضياعها بعد أزمة إدارة الحكم والاغتيالات السياسية التي شهدتها تونس علاوة على تواصل العمليات الإرهابية. الخوف على الدولة من الثورة سمح بالرجوع إلى الواجهة السياسية لمن كان خارج دائرة الحكم من النظام السابق طيلة فترة الترويكا.

منظومة 2014 الانتخابية تشارف نهايتها وقد أنتجت هي الأخرى ما انتجت من ترسانة عواطف نجدها في سرديات معارضيها مثلما نجدها في سرديات المواطنين الذين يستعدون لتحكيم عواطفهم الانتخابية. اعتمدت السوسيولوجيا الانتخابية على ما يسمى بالمتغيرات الثقيلة لتفسير السلوك الانتخابي. وهذه المتغيرات هي أولا تلك المرتبطة بتحديد الانتماءات الكبرى للناخب والتي توجه اختياراته كانتمائه الاجتماعي والجغرافي ونوعه الاجتماعي وفئته العمرية وهي ثانيا تلك المرتبطة بالمناصرة الحزبية وفيها الكثير من الوفاء لاختيار مبني فكريا وأيديولوجيا ويستمر مع الناخب لفترة طويلة. وهي ثالثا ذاك الاختيار العقلاني للناخب والذي يقع بناؤه وفق حسابات الربح والخسارة.

ستكون هذه المتغيرات الثقيلة حاضرة في انتخابات 2019 في تونس ولكنها سوف لن تكون في المحدد الرئيسي في بناء الاختيار الانتخابي. ستدخل في الاعتبار متغيرات رأس مال عاطفي وبأكثر كثافة مما حصل في الانتخابات الماضية. سنكون أمام مصطلحات الثأر والعطف والنقاوة معتمدين في ذلك على نتائج عمليات سبر آراء نوايا التصويت الأخيرة التي جعلت كلا من نبيل القروي وقيس سعيد وعبير موسي متقدمين في الترتيب مع التأكيد أن الأمور يمكن أن تتغير ثلاثة أشهر قبل الموعد الانتخابي ولاعتبارات عديدة. ولذلك نقترح العناوين التالية، ثأر عبير، عطفُ نبيل ونقاوة قيس.

يعتمد خطاب عبير موسي رئيسة الحزب الحر الدستوري في تعبئة ناخبيها المفترضين على عاطفة الثأر. الثأر هو المحرك الرئيسي في مواجهتها أولا لخصم سياسي تسميه بوضوح والثأر ثانيا من منظومة ما بعد جانفي 2011 برمتها ومن الذين كانوا وراء حل حزب التجمع الدستوري الديموقراطي، ولهذا يأتي الخطاب الثأري بكل هذا الشعور بالمظلومية و بكل هذا الزخم من نفي الآخر. وهو أيضا مجال للمسرحة، فالثأر يلزمه استعراض قوة ويلزمه رباطة جأش وصبر لتحقيقه وهذا ما جعل عبير موسي تمتطي حصانا في تذكير رمزي بالثأر القبلي وهي لا تتوانى أيضا في الظهور بمظهر المحارب الذي ينزف جراء جرح رمزي عميق. الثأر للأب في بعده السياسي الذي تركه الجميع بطريقة أو بأخرى وهي المرأة التي تواجه وحدها عملية ردّ الاعتبار له. وهذا ما جعل نرجسيتها كبيرة بقدر شعورها بالمظلومية التي يشاركها فيها من عبروا عن رغبتهم التصويت لفائدتها معتبرين أنها لم تغير مثل الكثيرين من مبادئها وبقيت وفية لماضيها. عندما تقود امرأة فعل الثأر وتمارسه إلى الآخر فإن هذا الفعل سيحصل على قيمة مضافة يصعب تحقيقها في سياقات أخرى مغايرة.

عطفُ نبيل القروي هو الآخر أحد مقومات الخارطة الانتخابية الجديدة. وعطفُه آت من الحملة الخيرية التي يقودها منذ أكثر من سنة وهي موجهة للمحتاجين في أرياف البلاد ومدنها. هو في الواقع لا يوزع فقط مواد غذائية أو أي مواد استهلاكية أخرى إنه وبالأخص يوزع مشاعر العطف والإحساس بالآخر وهو في حالة ضعف، لذلك اعتبر نفسه شبيها للأم تيريزا مقتحما بذلك عالم العواطف بمصطلحاته وممارساته. إنه إلى كل هذا يقدم إجابات لم تستطع الدولة تقديمها. إن المتعاطفين مع نبيل القروي ليسوا فقط من حصلوا على إعانات بل هم الذين أعجبهم السلوك وتأثروا به وربما تصوروا أنفسهم معنيين بذلك في يوم من الأيام.

منتقدو نبيل القروي يعتبرون أن عمليات توزيع الإعانات عديمة اللياقة الإنسانية وفيها الكثير من الإهانة البشرية بل هي استثمار سياسي وإعلامي في الفقر خصوصا عندما تم التعبير صراحة عن خوض القروي للانتخابات. المهم لدينا أن سجل الانتقادات في الغالب هو سجل عاطفي أيضا. إذا المعركة الدائرة هي معركة عواطف من أجل كسب الانتخابات.

نأتي الان إلى نقاوة قيس سعيد، والنقاوة حالة عاطفية هي الأخرى أراد المترشح قيس سعيد جعلها الكلمة المفتاحية التي تثير مشاعر الناس. وقد عبر عن هذه النقاوة من خلال تصريحات تنم عن تعفف كبير من مغريات السلطة. سيكون موظفا لدى الدولة، ينهي عمله ويعود إلى بيته وسينهي العهد مع القصر والسيارات الفاخرة وسوف لن يقبل أي دعم مالي من أية جهة كانت. كل هذه التصريحات وغيرها تشكل ما رسخ في أذهان المدافعين عنه كشخص يتمتع بالنقاوة والتعفف وهي الخصال التي لم يجدوها في السياسيين الذين يباشرون إدارة الدولة.

لا يعني هذا أن المترشحين الثلاثة لا يملكون برامج انتخابية ولكن سعيهم واضح لوضع هذه البرامج ضمن سلة من العواطف يقع اختيارها وإدارتها بعناية. نحن امام خارطة عاطفية جديدة للانتخابات من المحتمل جدا أن تجد لها موقعا بارزا في انتخابات 2019.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115