وصلت حدّ إعلان وفاته على قنوات عربية وعلى صفحات الشبكة العنكبوتية. ولكن أخر النهار هدأت الأنفس قليلا حين استوعب التونسيون ما حصل لهم وتبددت مخاوف وقوع الفوضى بما في ذلك الفوضى الدستورية. واستعاد الناس سير حياتهم العادية ونزلوا كعادتهم إلى المدينة وكأن شيئا لم يحدث. لم تغلق المقاهي ولا المحلات في الشارع الرئيسي الذي وقعت فيه إحدى العمليات الإرهابية. قوة عند التونسيين كبيرة في تجاوز فوضى الحواس التي يمكن أن تثيرها أحداث بذلك الحجم وبذلك الغموض. لم يأبه التونسيون إذا للإرهاب وقاوموه بشجاعة نادرة فامتلكوا الفضاء المديني الذي رغب الإرهابيون في تدميره ونثروا فيه جمالية الحواس الإنسانية. العواطف جزء من المشهد السياسي ومحدد لا مناص منه في تشكيله. شهدنا يومها احداثا سياسية وشهدنا أيضا أمزجة..
كذا تفاعل التونسيون مع خبر وفاة الرئيس الفجئية. لم يكن لهم سوى متابعة الأخبار الرسمية للتأكد من صحة الخبر من عدمه، ولهم كذلك الشبكة العنكبوتية بكل ما تحمله من أخبار للوقوف عند يقين الوفاة من عدمها. وشهدنا تسابقا وتلاحقا بين من سلّم بالأمر وبين من يكذب ويدعو للتريث. رئيس الدولة لا تنعاه إلا الدولة كتب أحد المعلقين محاولا إيقاف الجدل حول ما حدث للرئيس.
إن إشاعة خبر وفاة الرئيس هي حدث صحي، إعلامي، سياسي وعاطفي. هو حدث صحي لأن المتابعين لا يدرون هل أن الحالة المستقرة التي تمّ الإعلان عنها رسميا تعني استقرارا لحالة صحية معقولة أم لحالة صحية حرجة جدا. وبقينا ننتظر إلى أن حسم الأمر بأن حالة الرئيس الصحية في تحسن مستمر وأنه في اليوم الموالي حادث هاتفيا وزير الدفاع. بدأ التعاطف الشعبي الكبير مع الوضع الصحي المتحسّن لرئيس الجمهورية بسرديات عديدة كأن يقع تثمين بقائه في تونس للتداوي في مؤسسة عمومية تونسية وتحت رعاية ورقابة أطباء تونسيين من خريجي المؤسسة التعليمية التونسية. هذه السردية موجهة خصيصا إلى الزعماء العرب الذين لا يعترفون بمؤسساتهم الصحية ولا يعترفون بأطبائها من أبناء البلد كلما طرأ عليهم طارئ صحي.
الحدث إعلامي بكل المقاييس بدأ ببلاغ صادر عن رئاسة الجمهورية بأن الرئيس قد نقل إلى المستشفى العسكري إثر وعكة صحية حادة ساعة بعد الإعلان عن وقوع العمليتين الارهابيتين. ولكن قنوات عربية خليجية وأخرى جزائرية أعلنت رسميا وفاته. وهو ما زاد في حالة الارتباك الشعبي ونعته صفحات الشبكة العنكبوتية كل بطريقتها دون الاستناد إلى أي بلاغ رسمي من الدولة. بل أن عديد الصحفيين التونسيين الذين من المفترض أن يكونوا أكثر تثبتا وتمعنا من الخبر استسلموا لغواية السبق الصحفي ونشروا الخبر على صفحاتهم وترحموا على الرئيس. ولكن يبقى التفاعل الإعلامي الرسمي دون الحدث.
لا يمكن أن تكون الحالة الصحية لرئيس الجمهورية إلا حدثا سياسيا بكل المعاني داخليا وخارجيا. فعلى إثر تناقل إشاعة وفاة الرئيس بدأ النقاش مباشرة حول المحكمة الدستورية التي يتم في كل مرة ولأسباب سياسية تأجيل تشكيلها. المحكمة الدستورية التي من المفترض أن تبتّ في مسألة الشغور الوقتي أو الشغور الدائم لمنصب رئيس الجمهورية ومن المؤهل لقيادة البلاد في المرحلة القادمة. الحديث حول المحكمة الدستورية كان فرصة لتقييم مسار سياسي منذ انتخابات 2014.
في مستوى مشاعر الناس وحواسهم برز ما يمكن تسميته بالمواطن العاطفي الذي يقدم عواطفه في التعامل مع أحداث بمثل هذه القوة. كانت العواطف تتأرجح بين الخوف والترقب والغضب ولكنها في نفس اليوم تتحول إلى ثقة، إلى رغبة في التحدي، إذ في نفس الليلة يشهد مسرح قرطاج حفلا فنيا بحضور جماهيري كبير. ولكن الملفت هو أن هذه العواطف الإيجابية تعدل إلى حد كبير مزاج الخوف والارتباك وتعدل أيضا المعطى السياسي وتجنبه الانزلاق في الفوضى. تحتاج السياسة إلى فكر عقلاني لأنها في النهاية إدارة غير سهلة للشأن العام ولكن السياسة تحتاج أيضا إلى رأسمال عاطفي إيجابي يصنع الثقة ويعطي الأمل.
إن أهم ما قيل في حدث مرض الرئيس أنه وبالرغم من اختلاف البعض معه سياسيا إلا انه يبقى رمز الدولة وهو الرئيس المنتخب خلافا للزعماء العرب الاخرين، هنا بالذات أعطى التونسيون قيمة للديموقراطية التي في وقت من الأوقات يعتبرونها في مرتبة ثانية بعد الوضع الاقتصادي والوضع الأمني وهذا في حد ذاته أهم دروس المرحلة الانتقالية.