برج بابل// مجتمع الأفراد: مقولة الانتخابات القادمة

بعيدا عن التنقيح الأخير الذي شمل القانون الانتخابي، نتناول في مقال هذا الأسبوع مقولة مجتمع الأفراد

بما هي مقولة سوسيولوجية تمكننا من فهم ما يحدث الآن في تونس في علاقة بسبر نوايا التصويت عند الناخبين وبما يمكن أن تؤول إليه الوضعية الانتخابية نهاية هذه السنة.

مجتمع الأفراد هو تلك العلاقة التفاعلية التي تحدث بين الفرد والمجتمع الذي يعيش فيه، هو ذلك الارتباط المتبادل بين المجتمع والأفراد بطريقة يكون فيها الفرد حاضرا وممسكا بزمام أموره متحملا لمسؤولية اختياراته ومفاوضا في الوضعيات المختلفة والشائكة التي تعترضه في حياته اليومية. الفرد في هذه المقولة حاضر وبقوة، وحضوره ليس عدديا، إذ المجتمع ليس ذلك الكيان الذي يتشكل بتجمع أفراده بل هو مختلف التفاعلات التي ينتجها الأفراد فيما بينهم ضمن السياقات المختلفة التي يعيشونها.

تتعزز مقولة مجتمع الأفراد مقولات تحليلية أخرى مثل القراءة السياقية والعلاقات التفاوضية ورهانات الفاعلين الاجتماعيين والمعنى الذي يسنده الفاعلون لأفعالهم ولتصوراتهم والتأويلات المختلفة التي يرى بها هؤلاء الفاعلون أفعالهم ورموزهم المختلفة. تعطينا هذه المقولة إذا نظرة مغايرة للفرد، فهو ليس ذاك الفرد الذي يقبل بسهولة إكراهات مجتمعه ومؤسساته وقيمه، بل هو ذاك الفرد الذي يطوع قدر الإمكان كل تفاصيل حياته لحسابات الربح والخسارة آخذا في الاعتبار سطوة مجتمعه عليه. مقولة مجتمع الأفراد إذا هي مقولة تفاعلية تدلنا على شكل العلاقة بين الفرد والمجتمع.

كيف لمقولة مجتمع الأفراد أن تساعدنا إذا على فهم ما حدث مؤخرا في ما يتعلق بنوايا التصويت الذي قدمته مؤسسات سبر الآراء والذي تمّ وصفه بالزلزال؟

الصاعدون في نوايا التصويت الأخيرة هم أولئك الذين كان اعتمادهم على الرأسمال العاطفي كبيرا ومكثفا. ونحن نعلم أن المشاعر والعواطف أخذت مكانا بارزا في تشكيل العلاقات الاجتماعية وأن قيمة الفعل في قوته العاطفية و في عرض هذه القوة العاطفية للجميع باستعمال كل وسائل الاتصال الحديثة في مجتمع مشهدي بامتياز. فهؤلاء الذين يحصلون على الإعانات الغذائية من فقراء البلد لا يستمتعون بما حصلوا عليه من غنائم لأنهم يعرفون جيدا أن هذه الإعانات لا تخرجهم من فقرهم، هم مستمتعون بما آلت إليه تصوراتهم لذواتهم، للاهتمام الذي نالهم ولكونهم أصبحوا محددين في حسابات المشهد السياسي والمشهد الانتخابي. هؤلاء قد لا يكونون معنيين بالمشاركة الانتخابية، قد يكتفون فقط بالحصول على الإعانات وهذا غالبا ما يحدث في مجتمعاتنا على اعتبار أن هؤلاء الأفراد يعلمون جيدا ما يحصل وهم ليسوا بالأغبياء الذين ينطلي عليهم ما سمي بالتحايل. إنهم يدخلون في عمليات تأويل مختلفة لما يحصل لهم وهو تأويل ليس بالضرورة التأويل الذي نريده نحن.

الأكثر من ذلك أن هذا التأويل لا يقوم به فقط من حصل على الإعانات، الأخرون أيضا معنيون بتأويل المشهد، وهم الذين لم يحصلوا على الغنائم. إنهم الذين أعجبهم المشهد وتعاطفوا مع الفقراء، هنا لا يعنينا الفقر فقط وإنما ما يعنينا هو الإحساس به، وهذا يقودنا الى اعتبار أن الخزان الانتخابي الفعلي الذي دفع بنوايا التصويت إلى درجات عالية آت بالأساس من هؤلاء الذين لم يحصلوا على الإعانات والذين هم غير معنيين بها ولكنهم معنيون في المقابل بإحساس التعاطف وبقيمة الاعتراف والتقدير والذين يزعجهم سلوك النسيان والتهميش. الفقر يعني فئة اجتماعية دون غيرها ولكن الإحساس بالفقر يمكن أن يشمل فئات اجتماعية أوسع وهذا له علاقة بالعملية الانتخابية.

حدثني أحد الأصدقاء الجامعيين عن تجربته مع «عيش تونسي» عندما تمّ التواصل معه عبر الهاتف وعن موافقته على الإجابة على الأسئلة التي عرضت عليه. بعد شهرين وقع التواصل معه مرة أخرى وتمّ التداول في الإجابات التي قدمها وفي الاتجاهات الكبرى لإجابات الآخرين وفي الوثيقة التي شملت نقاطا بعينها. طلب منه المتحدث إن كان موافقا مرة أخرى على التوجهات العامة وعلى إمكانية إمضائه على الوثيقة. في كلا الحالتين المعروضتين هناك دروس للاستخلاص. الدرس الأول هو الشخصنة، أي الذهاب مباشرة إلى الشخص وهذا ينسجم مع مقولة مجتمع الأفراد. الدرس الثاني هو القرب بما يعنيه من اهتمام بفئة معينة والاقتراب من مشاغلها المختلفة. الدرس الثالث هو المقاربة التشاركية بما يعني ذلك من إدماج الفرد في عملية التغيير وأن مشاركته تعني الشيء الكثير. الدرس الرابع هو الفعل في الميدان بما يعنيه من رغبة الفاعل الجمعوي أو غيره في العمل الجاد ومن رغبته في الوصول إلى الأفراد أينما كانوا.

من المهم أيضا تحصين الانتقال الديممقراطي بقوانين تمنع التجاوزات التي يراها المشرع والسياسي مهددة لهذا الانتقال وهذا أيضا درس لا يقل أهمية عن الدروس التي وقع عرضها سابقا. ولكن مع درس التنقيح هذا على السياسيين أن يستوعبوا درسا سوسيولوجيا مفاده أنه لم يعد بالإمكان الحديث عن المجتمع الذي تصورته الدولة الوطنية، بل أننا انتقلنا إلى مجتمع أخر هو مجتمع الأفراد وهو المقولة التي ستحدد نتائج الانتخابات القادمة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115