كواليس النات// غوغل Vs هواوي: من المتضرّر الحقيقي ؟

بقلم: محجوب لطفي بلهادي
باحث مختص في التفكير الاستراتيجي
فى بلد يقدّم نفسه للعالم كأنموذج للاقتصاد الحرّ، جاء قرار «غوغل» بتوقيف التعامل التجاري مع عملاق

الاتصالات الصيني «هواوي» ليسقط ما تبقّى من ورقة التوت.. فلا مكتسباتنا المعرفية فى مجال الاقتصاد السياسي ولا المقولة التى حفظناها عن ظهر قلب «دعه يعمل، دعه يمرّ» من الممكن تصديقها بعد اليوم.. فبمجرد أن تدق أجراس النفير تدخل المؤسسات الاقتصادية بأحجامها المحلية أو تلك العابرة للحدود مهرولة الى بيت طاعة الدول التى تنتمي إليها، و»غوغل» لن تشذّ عن القاعدة...

فاختيار «غوغل» لقيادة هذه الجولة الشطرنجية الأولى كان مقصودا ومخططا له سلفا ..فتحقيق الاختراق بالصدمة يستلزم صاعقا كهربائيا من حجم «غوغل»، أيقونة الاقتصاد الأمريكي والملكة المتربعة على عرش عمالقة النات المعروفة باسم GAFA (Google-Apple-Facebook-Amazon) ...

وكما علّمتنا لعبة الشطرنج الإستراتيجية بأنّ «الشّاطر» هو من يتحلّى بالصبر ومن يجيد تحريك قطعه فى الوقت والمساحة المناسبة.. وبما أنّ الحروب الباردة شطرنجية بامتياز فانه يتوجّب البحث عن قطع الضغط التي بحوزة المتنافسين لمعرفة من المتضرّر الحقيقى من هذه الحرب الرقمية بالوكالة : «غوغل» أم «هواوي»؟

1 - فى المساحة المخصّصة لغوغل:
لإجبار خصمها «هواوي» على التراجع والاستسلام، تستمدّ «غوغل» قوتها أساسا من تحريك عدد من القطع المؤثرة :

• أولا : حجب خدمات «الاندرويد» وتحديثاتها عن هواتف «هواوي» ابتداء من منتصف أوت القادم
ببساطة يعدّ نظام الاندرويد من أنظمة تشغيل الهواتف الذكية الأوسع استخداما عبر العالم بنسبة تعادل 85 بالمائة.. تم تصميمه منتصف العقد الماضي من قبل إحدى الشركات الناشئة الأمريكية Startup قبل أن تنتقل ملكيته الى «غوغل» سنة 2005.. ينتمي الاندرويد الى جيل البرمجيات المفتوحة المصدر open source المبنية على نظام Linux مما يمنح لشركات الموبايل الحق فى تعديله وتطويره إلاّ أن «غوغل» تقوم بتحديث هذا المصدر المفتوح ..ما يميّز نظام الاندرويد عن بقية أنظمة التشغيل تنوع وجاذبية منظومة الخدمات البرمجية التى يقدمها للمستخدم من Google chrome / Google Maps / Gmail / Youtube etc.) ( و«متجر غوغل» Google Play الحافل بمئات من التطبيقات المجانية والمدفوعة من العاب وكتب وأفلام الخ مع تمتعه بتحديثات أمان عالية ومنتظمة...
فخطورة قرار «غوغل» بتوقيف التعاون التجاري مع «هواوي» لا ينصبّ على نظام التشغيل بحدّ ذاته، كما يعتقد البعض، بل بالمنظومة الخدماتية المحيطة به Ecosystème d’Android التى يصعب على «هواوي» تداركها فى المنظور العاجل.. فمئات الملايين من المولعين الى حدّ الهوس بتطبيقات «غوغل» عبر العالم يصعب إقناعهم بالتخلي الفوري عنها واستبدالها بأخرى حتى وان كان البديل المقترح أكثر جاذبية وتطورا، وتبعا لذلك فانه من المتوقع ان تعرف مبيعات «هواوى» من الهواتف الذكية تراجعا خلال الأشهر القادمة مما سيؤثّر سلبا على طموحاتها بتربع عرش الهواتف الذكية خلال سنة 2020...

• ثانيا: اصطفاف عدد من عمالقة الاتصالات خلف القرار الترامبي
من تعقيدات حرب «غوغل» على «هواوي» المسكوت عنها دخول حلفاء من الوزن الثقيل على خط المواجهة.. شركات عملاقة متحكّمة فى صناعة «أشباه الموصلات» les géants de l’industrie des semi-conducteurs من شرائح ورقائق خلوية ومعالجات دقيقة للهواتف الذكية وأنظمة الحاسوب بمختلف أنواعها على غرار Intel / Qualcomm وبصفة خاصة الشركة البريطانية الأصل ARM التى تحتكر تقريبا سوق «معمارية المعالجات الدقيقة» فى العالم l’architecture des micro-processeur بدونها يتحوّل الهاتف الذكي الى مجرد قطعة حديد لا فائدة منها.. فسحب تراخيص الاستغلال والتطوير الممنوحة لهواوي من قبل هذه الشركات يعرّضها الى خطر حقيقي لاسيما وأن القيادة الصينية مدركة تمام الإدراك بأن عليها بذل مزيد من الاستثمارات للالتحاق «بالعمّ سام» فى مجال تصنيع الشرائح ومعمارية المعالجات الدقيقة على وجه الخصوص...

2 - فى المساحة المخصّصة لهواوي:
فى معركتها مع «غوغل» تمسك «هواوي» بالعديد من القطع الشطرنجية الواعدة منها :

• أولا: ضخامة السوق الصينية
تتفوّق السوق الصينية للاتصالات عن نظيراتها المنافسة باستقطابها لأكثر من 800 مليون مستخدم للانترنت وباحترافية عالية اكتسبتها اليد العاملة الصينية لمدة عقود فى مجال التكنولوجيات الدقيقة مما حافظ على مكانتها المحورية كوجهة استثمارية أولى بامتياز لعمالقة الاتصالات فى العالم.. سوق ضخمة وواعدة للهواتف الذكية عرفت صعودا صاروخيا بين سنة 2009 الى سنة 2017 بنسب فاقت 160 بالمائة.. تتنازع عليها وبضراوة كبريات الشركات الرقمية على غرار Apple/Xiaomi/Huwaei… للفوز بحجم مبيعات وحصص تموقع أعلى...
من مفارقات اللحظة ان الرئيس المدير العام «لغوغل» نفسه Sundar Pichai أشار موفى سنة 2017 بان الوقت قد حان للعودة مجددا للصين التي تمثل 20 ٪ من سكان العالم ! غير أن رياح ترامب تجري بما لا تشتهي سفن وادي السيلكون Silicon Valley...

• ثانيا : الأتربة النادرة Les pierres rares
تعتبر الأتربة أو المعادن النادرة من الأوراق الخفية التى قد تحسم الحرب الباردة الرقمية الدائرة اليوم بالوكالة بين «غوغل» و«هواوي» .. لكن ماذا نعرف عن هذه الأتربة؟ وما هي أهميتها الإستراتيجية ؟
تتكون الأتربة النادرة من أكثر من 17 عنصرا كيميائيا تستخدم فى التكنولوجيا العالية والمعدّات العسكرية دونها يتعذّر تحقيق الثورة الصناعية الرابعة.. تتوزع فى العديد من مناطق العالم.. تستأثر الصين لوحدها بما يقارب 40 بالمائة من الاحتياطي العالمي بطاقة إنتاجية تغطى 70 بالمائة من حاجيات السوق العالمية من المعادن النادرة..تعتمد الولايات المتحدة الأمريكية بشكل كبير على الصين لتأمين إمداداتها الحيوية من هذه العناصر حيث بلغت مشترياتها من بكين خلال الفترة الفاصلة من سنة 2014 الى سنة 2017 حوالي 90 ٪ من وارداتها من المعادن النادرة...
أهميتها «كمورد استراتيجي» جاء على لسان وزير التجارة الأمريكي مؤخرا حين صرح بأنّ «هذه المعادن المهمة كثيرا ما يتم إغفالها، لكن الحياة العصرية تكون مستحيلة بدونها، لذلك ستتخذ الحكومة الفيدرالية إجراءات غير مسبوقة لضمان عدم حرمان الولايات المتحدة من هذه المعادن المهمة».. وفى ردّ تصعيدي على الحظر أعلنت «اللجنة الوطنية الصينية للتنمية والإصلاح» فرض ضوابط تصدير محتملة على المعادن النادرة...

• ثالثا: خطط «هواوي» البديلة فى إدارة الأزمة الراهنة
منذ سنة 2012 طوّرت «هواوى» نظام تشغيل خاص بها تحت مسمى غير نهائي HongMengOS.. نظام لا نعرف الكثير عن مواصفاته التقنية نظرا للتكتم الصيني حوله الى حين موعد إطلاقه المتوقع خريف هذه السنة.. بالتأكيد لهواوي خبرة عالية لا يستهان بها فى تصميم وتطوير البرمجيات المصاحبة لنظام الاندرويد داخل الصين، وهي اليوم بصدد دعوة مطوّري البرامج من جميع أصقاع العالم الى المساهمة فى إثراء منظوماتها البرمجية المعروفة ب App Gallery ..غير ان التحدي الحقيقى لهواوي يبقى رهين قدرتها على تصميم متجر للخدمات وحزمة من التطبيقات المغرية تضاهى فى الحد الأدنى جاذبية خدمات نظام الاندرويد عبر العالم...
من جهة ثانية، وضعت «هواوي» - منذ مطلع القرن - استراتيجية استباقية فى مجال تصميم وإنتاج وتجميع الشرائح والمعالجات الدقيقة تحسبا لهذه اللحظة الفارقة.. ففي سنة 2004 أحدثت «هواوي» شركة متخصّصة فى إنتاج «أشباه الموصلات» les semi-conducteurs المعروفة باسم HiSilicon التى سارعت منذ نشأتها بإبرام العديد من اتفاقات الشراكة والتطوير مع كبار مصنّعي «أشباه موصلات الاتصالات» فى العالم للتسريع من عملية النقل التكنولوجي.. سياسة استشرافية مكّنت «هواوي» من تصميم شريحة خاصة بها980 Kirin المثبتة على هواتفها الذكية، والمتميزة بكفاءة الأداء والسرعة العالية.. والبقية حتما ستأتي !

• رابعا: حماقات ترامب التويترية المتكررة
فى استعارة كاريكاتورية ساخرة لصورة «الكوبوي التكساسى» الأصيل القادم من بعيد، لم يدر فى خلد الرئيس ترامب للحظة بأن افتعاله لحرب ضد «هواوي» بهذه الطريقة الانفعالية الرديئة قد أخطأ تماما المرمى، وأنّ الرّصاصات التى أطلقها توجّهت قلب مملكة Silicon Valley عوضا عن مدينة Shenzhen المقرّ الرسمي «لهواوي».. كيف ؟
فعلى خلفية القرار الامريكى تعيش الصين هذه الأيام على وقع موجة واسعة من المشاعر الوطنية المتضامنة مع «هواوي» والمعادية لهاتف IPhone العائد لعملاق الاتصالات الأمريكي Apple ، ومن المنتظر – ان استمرت الأزمة – أن تسجل حجم مبيعات Apple تقهقرا نوعيا فى هذه السوق الإستراتيجية !
و«غوغل» نفسها التى كانت تخطّط جدّيا نهاية سنة 2017 فى العودة مجدّدا للسوق الصينية عبر إطلاق منظومة من التطبيقات المنسجمة مع السياسات الرقمية الرسمية للسلطات الصينية، لم يعد اليوم ذلك ممكنا على الإطلاق.. فاصطفافها البافلوفي خلف القرار الترامبي ستكون له تكلفة عالية جدا فى المنظور المتوسط قد يبلغ مستوى تخلي ملايين الصينيين وغيرهم من مستخدمي الهواتف الذكية في العالم عن نظام الاندرويد برمته واستعاضته بنظام التشغيل البديل لهواوى...
وبما أن الصينيين من بين الشعوب التى ابتدعت لوحة شطرنج خاصة بهم Xiangqi .. وباعتبار أنها لعبة استراتيجية يقودها ذهن عقل استباقي يقظ وجيش صامت لا يكترث كثيرا بالتعويذات التويترية لترامب فان مالات هذه الجولة يمكن التكهن مسبقا بنتائجها، فساعة الحسم الصيني بحركة «كش مات» Echec et mat قد دنت...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115