«المتاهة» الشهيرة عليك أوّلا بمحاولة المسك بالخيط الناظم بين «الجغرافية السياسية» و«الجيوبوليتيك» و«الجيوستراتيجيا».. رحلة متاعب موفّقة !
«إنّ معرفة جغرافية الدولة تعنى معرفة سياستها الخارجية»، مقولة «بونابرتية» شهيرة تنافست عدد من الدراسات ذات الطابع الاستراتيجي على استحضارها إلى حدّ الاجترار لتذكّرنا بأنّ الأرض التي يفترض أننا نسير عليها قد تسير بنا إلى ما لا ندري، والتي نتبجّح ليلا نهارا أنها في صفّنا قد تخذلنا أحيانا …
ممّا لا ريب فيه أنّ السياقات غير السياقات، وأنّ الحتمية الجبرية «البونابارتية» القائمة على «إنّ …تعني…» أصابها الكثير من الوهن ! فبعد انفراط عقد «الحرب الباردة» و«القطبية الواحدة والصعود الصاروخي لأسهم «الرقمنة المجتمعية الشاملة» la digitalisation sociétale globale أضحت الخارطة الدولية تنطوي عن وحدات جغرافية متداخلة تحوم بشكل مكوكي سيّار حول مركز شديد التوهج نقشت أحرفه الكبرى بلغة المعلوماتية 0 و1...
فى القسم الأول من هذا المقال البحثي نحاول التفاعل «كإلكترون حرّ» مع مفاهيم «الجغرافيا السياسية» و«الجيوبوليتيك» و«الجيوستراتيجيا» لنخلص في – قسمها الثاني – إلى رصد الإحداثيات الجغراسياسية الرقمية الجديدة واستتباعاتها المحتملة على صعيد منظومة التفكير الاستراتيجي الكلاسيكي.
• المطلب الأول – بين مطرقة الجغرافيا وسندان السياسة
بالتأكيد لكل مرحلة تاريخية «ايقوناتها» اللغوية والاصطلاحية في عصر يتسم «بالتنويم الرقمي المعولم» بمفردات السياسة وتقنيات الاتصال الحديثة، وفى مشهد دولي في طور إعادة التشكل بالكامل تحرّكه مؤسسات معلوماتية، مالية وإعلامية عملاقة توجّه السياسات الدولية بأدوات الاقتصاد والميديا الرهيبة تسندها بشكل مباشر أو بالتقاطع مجموعات تفكير Think Tanks دأبت منذ تأسيس أول «مخبر تفكير» لها سنة 1884 بلندن على الاضطلاع بمهام الهندسة والتسويق لسياسات مراكز الضغط والنفوذ المعلنة والخفية.
فان كانت مناهضة «مشروع التوسع الامبريالي الجديد» و«التبشير بمجتمع ملائكي» إنجيل جيل الستينات والسبعينات، فلقد أمست «العولمة» و«الثورة الرقمية» منذ سقوط «جدار برلين» والى الساعة المنظومة الخطابية الأشد تأثيرا والأكثر تداولا بين الأفراد وفي المنتديات الافتراضية والمؤتمرات الدولية والإقليمية.. فالحاجة الملحة لاستحداث عبارات/مفاتيح جديدة على غرار «الفضاء الافتراضي» Cyber espace و«التسويق الافتراضي» Marketing digital و«الحروب السيبرنية» Cyber guerre الخ.. جاءت فى شكل استجابة مزدوجة للتحولات المتسارعة والعميقة التي نعيش على وقع صدماتها اليوم ولمتطلبات علم النفس السياسي المعاصر في المغنطة والتأثير…
فاستقراء للأدبيات المتاحة والموسوعات السياسية المتصلة بالمنظومة المفاهيمية الإستراتيجية الكلاسيكية ما قبل الرقمية تؤشر بأنّ مضامينها يلفّها الكثير من الغموض والخلط حتى داخل الأوساط المتخصصة من جغرافيين وخبراء في الاستراتيجيات والاستشراف لتبلغ ذروتها بدخول الإعلام والسّاسة على الخط ونجاحهما المنقطع النظير في تحويل المنظومة برمتها لمادة تسويقية بامتياز تسيل اللعاب قبل الحبر.. تعقد من أجلها الندوات والمؤتمرات في أفخر النزل.. تغدق عليها المليارات .. ليصبح الجميع وبقدرة «العولمة» خبراء في القضايا الإستراتيجية ...
فعملية التشويش المفاهيمي داخل هذه المنظومة طالت العديد من المستويات منها من هو متّصل بكتابة التاريخ ومنها من هو بعلاقة بالسياقات والبعد الدلالي.
أ - في مستوى التأريخ :
تعود قصة العشق «التنظيري» بين «الحيوان السياسي بطبعه» والجغرافيا إلى الحقبة «الهيلينية» حين كشف «أرسطو» 383-322 ق.م عن «أنّ قوة الدول مستمدة من توازن ثرواتها مع عدد ساكنيها».. لتعرف فيما بعد المكتسبات الجغراسياسية نقلة نوعية على يد العلاّمة «ابن خلدون» الذي نظر للدولة وفق مقاربة انتروبولوجية شاملة أطلق عليها «علم العمران».
فإن كان «لفريدريك راتزل» 1844 /1904 الأحقية في نيل لقب أب الجغرافيا السياسية الحديثة من خلال كتابه «الجغرافيا السياسية» حين شدّد «بأنّ الدولة ككائن حيّ له أهداف يتطلّع إلى تحقيقها، وذلك من خلال توظيف الحتمية الجغرافية التي تحكم وجوده، فالدولة ليست حقيقة جغرافية، ثابتة، بل هي كائن حي يتحرك نحو مجالات حيوية تعد ضرورة لبقائه».. وان كان «لرودولف كيلين» 1864 - 1922 أيضا الأسبقية الاصطلاحية في استخدام عبارة «الجيوبوليتيك» التي عرّفها بأنها «البيئة الطبيعية للدولة...»، فانّ لمقدّمة «ابن خلدون» 1332 - 1406 الرّيادة كل الرّيادة في إرساء أوّل مقاربة شمولية متعددة الأبعاد لظاهرة الاجتماع البشري يحتلّ الفكر الجغراسياسي موقعا محوريا داخلها.
فتوصيف الدولة «بالكائن الحيّ» كان قد تفطّن له «ابن خلدون» قبل أربعة قرون من ظهور مؤلّف «راتزل» حين خصّص ثلث «المقدمة» في فهم سيرورة الدول التي تداولت على منطقة شمال إفريقيا (من طور النشأة الى طور الهرم والانحلال مرورا بطور العظمة والمجد) وفق منهجية علمية استندت إلى التحليل والاستقصاء، واستخدام قانون المطابقة وانتهاج الأسلوب الوصفي والقياسات الكمية.
وبمقاربته للدولة «كامتداد مكاني وزماني لحكم عصبية ما» يكون «ابن خلدون» قد كشف قبل غيره عن الطبيعة الانسيابية للدولة مع مجالها الجغرافي.. فعبارة «امتداد» تنطوي على إمكانية تمدّد الدولة وتوسعها أو ما يعبر عنه اليوم في «الجيوبوليتك» بالبحث عن «المجال الحيوي» l’espace vital...
وبحسّ علمي مدهش أدرك ابن خلدون أنّ «الاستشراف» الذي عبّر عنه في أكثر من موضع بلفظ «التشوّف» من الأهمية بمكان.. فجاءت «المقدمة» استشرافا مستقبليا لتاريخ شمال افريقيا بالخصوص بأدوات «النظر والتحقيق» الخلدونية...
فإن تمكّن «ابن خلدون» من كسر «عزلته» في «قلعة بني سلامة» منذ خمس قرون خلت فانّ النخب العربية بألوانها القزحية المختلفة لم يستطع قسما واسعا منها إلى اللحظة من التحرّر نهائيا من معابدها الوثنية...
ب - على المستوى السياقي والدلالي:
تعددت وجوه التداخل الاصطلاحي بين «الجغرافيا السياسية» la géographie politique و«الجيوبوليتيك» La géopolitique بتنوع البواعث والمسوّغات منها:
- الزيجة غير المتكافئة بين الجغرافيا والسياسة، فالأولى تعدّ علما قائم الذات بمنهجية واضحة وصارمة، والثانية تخصّص معرفي يبحث عن كينونة علمية مستقلة، حيث ظلّ إلى حدود منتصف القرن التاسع عشر يتنفس ويعيش من حالة التزامل النفعي symbiose مع باقي العلوم الاجتماعية.
- تزامن ظهور «الجغرافيا السياسية» و«الجيوبوليتيك» بسياقات تاريخية شديدة الارتباط بالمشروع النازي..فاغلب منظري الجيوبوليتيك كانوا بالانتماء أو بالتقاطع قريبين من «مدرسة مونيخ الجيوبوليتكية» التي كان على رأسها «كارل هوسهوفر» أحد مستشاري هتلر في الشؤون الخارجية...
- المصاهرة اللغوية السقيمة بينهما عند النقل والترجمة من الانجليزية إلى العربية ليكون الحاصل «البيتاغوري» الممعن في السذاجة يتمثّل في أن تصبح «الجغرافيا السياسية» رديفا لعبارة «الجيوبوليتيك» !
ج - المخارج الممكنة:
قد تساعد عملية رصد المشترك والمختلف بين جميع هذه المفاهيم على فك أحجية «الاختناق المروري» التي تعيشها المنظومة المفاهيمية الإستراتيجية الكلاسيكية.
- في خانة المشتركات:
تشترك جميع هذه المفاهيم في استخدام عبارة «جيو» اليونانية الأصل (التي تعنى في بعدها الدلالي المتحرك «أحوال الأرض»)، فلا يمكن الدخول إلى عالم «الجيوبوليتيك» دون إحالة إلى «الجغرافيا السياسية».. فكأننا حيال سلسلة إنتاجية تعمل على تحويل المادة الأولية (الجغرافيا السياسية) إلى مادة مصنّعة (الجيوبوليتيك) قابلة للترويج فيما بعد بأدوات (الجيو استراتيجيا)...
- في خانة الاختلاف:
تعالج «الجغرافيا السياسية» العلاقات المكانية المتصلة بالوحدة السياسية لدولة ما بمنظور الحاضر في حين أن «الجيوبوليتيك» تستشرف المصالح المستقبلية للدولة لترسم سياستها القومية...
ومن التعريفات الأوسع تداولا بين أوساط المتخصصين ما جاء به «رايمون أرون» 1905 - 1983 في بداية ستينات القرن الماضي عندما وصّف «الجغرافية السياسية» بالإطار Cadre و«الجيوبوليتيك» بالرّهان Enjeu و«الجيوستراتيجيا» بالمسرح Théâtre.. بهذا المعنى تشكّل «الجغرافيا السياسية» الإطار العام، منها تنطلق الرهانات الكبرى التي يضبطها «الجيوبوليتيك» لتجد فيما بعد في «الجيوستراتيجيا» مسرحا لتحققها.
• المطلب الثاني - مدى تطابق الصورة مع الأصل ؟
كنّا نستشعر بطرحنا لهذا السؤال/المطلب أنّ المشهد الدولي الراهن يستبطن صورة وأصل وأنّ منظومة المفاهيم الإستراتيجية الموروثة عن الحرب العالمية الثانية قد لا تفي اليوم بالحاجة.
فالتّعريف «الأروني» على أهميته البيداغوجية يصطدم اليوم بجدار «الفضاء الافتراضي الموحد» الذي لا يسمح بتعدد المجالات الجغراسياسية التقليدية، ولا يعترف كثيرا بحق الدول فى رسم رهاناتها إلا في حدود ما تسمح به مقتضيات عصر الرقمنة المتعالي!
فعندما ناظر «مارشال ماكلوهان» عالم اليوم بالقرية الكونية Global village لم يجانب إطلاقا الحقيقة، فالفضاء الافتراضي الذي يحيطنا بنا من كل جانب نجح إلى حدّ بعيد في تضييق نطاق الخارطة الجغرافية الكلاسيكية من حيّز «الدولة المعلومة الحدود» إلى حيّز «القرية الكونية الهلامية» بقواعد لعبة جديدة لا مكان فيها للصغار...
فالنسق السريع للثورة المعلوماتية الحديثة أوقع الجغرافيا والتفكير الاستراتيجي في عديد من الفخاخ والاحراجات المعرفية مما حدي بقسم واسع من الجغرافيين بالقول بأن الجغرافيا تعيش حالة «موت سريري» بفعل تسونامي الثورة الرقمية...
بالفعل عندما أغمض عيني وافتحها على «مواقع التواصل الاجتماعي» و«صفحات النات».. وعندما تقودني فى المستقبل القريب سيارتي إلى الوجهة التي أقصدها بتوجيه ذكي ذاتي الحركة.. وعندما تنسج العلاقات حينيا بين أفراد ومجموعات وهيئات متواجدة في مناطق متباعدة جغرافيا.. وعندما تجرى العمليات الجراحية الدقيقة عن بعد بنجاح منقطع النظير.. وعندما تدار المعارك والحروب الأكثر ضراوة بأسلحة سيبرنية مستحدثة cyber armes، فاني حتما أقف على منصة جغرافية افتراضية البناء، حقيقية الوجود، عابرة للحدود بنقرة أو لمسة واحدة، لا تعترف بالوحدات الترابية السيادية التقليدية...
فعلى نقيض الجغرافيا الكلاسيكية التي تقوم على ديالكتيك الطبيعي/البشري المحدد النطاق، تنطلق الجغرافيا الافتراضية من أرض متحركة مفتوحة، بتضاريس متنوعة (برمجيات ومواقع ومحركات بحث وغيرها تدفق عبر كابلات بحرية وأقمار صناعية) تتحكم في مخرجاتها دول ومؤسسات عملاقة رائدة في المجال الرقمي ومجموعات ضغط افتراضية مؤثرة الخ...
فعبارة «الافتراضي» تحيلنا مباشرة إلى العالم التخيّلي illusoire الذي لا يمتّ بصلة بالواقع المادي في حين أن العكس هو الصحيح.. ففي مفهومه الرقمي يعدّ «الافتراضي» تمثّلا للعالم الواقعي بمجموعة من التدفقات والإشارات الكهربائية والبصرية Flux et Signaux électriques et optiques الموجودة فعلا...
فالتوأم «السّيامى» Jumeau Siamois العولمة/الثورة المعلوماتية تمكننا من تصيير Rendering جغرافيا/المكان إلى جغرافيا/الشبكة بمنسوب غير مسبوق من الديمقرطة في استخدام الشرائح الخلوية والهواتف الذكية وشبكة الانترنت ومواقع «الارث غوغل» و«اليوتيب» و«الفايس بوك» وغيرها من الوسائط والمنصات الرقمية...بالنتيجة نشهد انتقال قسم من مكتسباتنا الجغرافية من نطاق الجغرافيا المدرسية Géographie d’école إلى جغرافيا تفاعلية Géographie interactive ومن جغرافيا الخريطة Géographie de la carte إلى جغرافيا الاستشعار عن بعد ونظم المعلومات الجغرافية GIS التي يسّرت عمل المخططين إلى حد كبير في اتخاذ القرارات المتصلة بالنقل ونظم الاتصالات والزراعة والتخطيط لمدن المستقبل وغيرها...
فاستعاضة «المادي» Matériel «باللامادي» Immatériel في مقاربة مفهوم «المكان» أفقد الثالوث المقدّس «الجغرافيا السياسية» و«الجيوبوليتيك» و«الجيوستراتيجيا» الكثير من بريقه لفائدة جغرافيا كونية رقمية توسعية تتوقف استدامتها على مدى قدرتها على استيعاب الآخر المختلف...
فأفق التحليل «الجيوبوليتيكي» الكلاسيكي المقيد بأغلال «الأرض» و«الدولة» و«السيادة» لم يعد قادرا على مواجهة نسق الثورة المعلوماتية الراهنة .. فجميع السياسات الكبرى والسيناريوهات المستقبلية (شرقا وغربا) سيتم رسمها شئنا أم أبينا وفق اكراهات الفضاء الافتراضي المعولم الذي يتقاطع فيه المحسوس بالافتراضي.. كما أن بداية تشكّل «سور رقمي عملاق» une grande muraille numérique على غرار «سور الصين العظيم» لا مكان فيه للكيانات المستقلة سيظل باستمرار مصدر احتقان واضطراب دولي شديدين.. داخله وخارجه مفقود !