هذه صورة فولكلورية ليس إلا، هي ما ينطق به سكان المدن عندما تتاح لهم زيارة أريافنا. في تمثلهم هذا كثير من حسن نية سائح أو عابر سبيل قوبل بحسن الضيافة. سكان الأرياف ليسوا بسطاء، لهم خلافاتهم ولهم صراعاتهم يديرونها بما أوتي لهم من موارد رمزية ومادية، لهم ما يكفي من الدهاء ومن الفطنة لتجاوز صعوبات العيش. هم في الأغلب وقود للاحتجاجات الاجتماعية. واقعهم المرير يفرض عليهم ذلك.
منذ نهاية ستينيات القرن الماضي أصدر عالم الاجتماع الفرنسي " جون دوفينيو" كتابه عن قرية الشبيكة في الجريد التونسي. لم يقبل النظام السياسي وقتها ما جاء في الكتاب. هو إدانة لتنمية فاشلة ولعجز الدولة عن الإيفاء بوعودها. بطل قرية الشبيكة ليس شخصا ذا نفوذ قوي، والبطل لا علاقة له بعادات أهل القرية وتقاليدهم، والبطل ليس الضمير الجمعي الذي يقود ممارسات الناس وذهنياتهم. إنه شيء آخر مختلف، إنه الترقب. والترقب هو حالة عاطفية تتمحور حوله كل انتظارات أهل القرية. ترقب وعود الدولة أساسا، ترقب أن تأتي الدولة لتغير مجرى حياتهم. وترقب رفع الظلم عنهم. وإلى الآن وهم يترقبون إذ لا شيء تغير في الأفق. كتاب " دوفينيو" حول قرية الشبيكة لا يزال صالحا إلى الآن.
خارطة الأحزان في تونس ريفية دون منازع، تشاركها في ذلك الأحياء الحزامية التي تأتي على أطراف المدن الكبرى. هي الأخرى ريفية تمدنت بعد حركة نزوح عالية منذ عقود. خارطة الأحزان هذه ليست عادلة بكل تأكيد. تأتي الأحزان من ضحايا الهجرة غير النظامية وأغلبهم من الأرياف. وتأتي أيضا من المنقطعين عن الدراسة باكرا وهم بالآلاف الذين يقطعون المسافات البعيدة وصولا إلى المدرسة. تأتي الأحزان أيضا من حالات الانتحار التي في معظمها لشباب ريفي سئم الحياة.
ولكن الحزن الكبير هو أن المزارعين في أريافهم هم مزارعون بلا أرض. أرادت سياسات الدولة المضاربة أن تنزع من هؤلاء أراضيهم بأشكال مختلفة ومنها تأجير الأراضي التي لم يستفد منها صغار الفلاحين نتيجة الشروط المجحفة لبنوك الاستثمار الفلاحي. وعلاوة على ذلك لم توزع الأراضي التي هي على ملك الدولة بشكل عادل ومحفز لصغار المزارعين. أعطيت الأراضي وفق العلاقات الزبونية ووفق علاقات الولاء. وظهرت الاستثمارات الزراعية الكبرى التي يملكها أناس لا علاقة لهم بالمجال الزراعي ورأوا في ذلك استثمارا كغيره من الاستثمارات في قطاعات السياحة أو النسيج أو غيرها. أنهك صغار المزارعين بالقروض، ولم يكن بمقدورهم منافسة التدفق المالي الكبير لأصحاب الأراضي الكبرى، ولم يستطيعوا مجابهة نقص المياه وغلاء الأعلاف وغيرها وانتهى الكثير منهم أجراء عند الملاك الجدد. وحتى تجارب التسيير الذاتي للأراضي لم ترق لمنطق الدولة التي تريد الإشراف على كل شيء.
الحلقة الأضعف في هذا المشهد هن النساء بلا منازع. عاملات في الضيعات الزراعية بأجور زهيدة، كادحات من الفجر إلى مغيب الشمس. هن حاملات حزن أجسادهن المنهكة. ولهذا هن عرضة لكل أشكال المآسي. الدولة بسلوكها البيروقراطي وبغياب سياسات واضحة للمسألة الزراعية وبغياب التغطية الاجتماعية جعلت من الأرياف التونسية عرضة لكل أشكال
التمييز والإهانة. تتسع رقعة خرائط السخط والأحزان في تونس ويترجمها الفاعلون الاجتماعيون إلى احتجاجات وإلى غياب عن المشهد العام ومن ثمة إلى سلوكات شبابية محفوفة بالمخاطر.
راية كادحات الحقول والمزارع مرفوعة في كل مكان، في الساحات العامة وفي المعاهد و شبكات التواصل الاجتماعي. حركة رمزية تبدد وحشة موت لا معنى له.