البقاء في الحكم، لعقود اخرى ربما، الاول ، رغم مرضه وعجزه عن الكلام والحركة، اباح لنفسه التقدم لعهدة خامسة، متنكرا لالتزامات سابقة بالتنحي (سطيف 2012) والثاني أتى على اثر انقلاب على الديمقراطية وارادة الشعب وبقي في السلطة اطول مدة في تاريخ السودان، ثلاثون سنة بالتمام والكمال، والملفت حقا ليس طول مدة بقائهما في الحكم واخماد صوت كل معارضة للسلطة وتكميم الافواه وغلق كل منافذ الحرية، بل ان كلا البلدين يمتلكان ثروات طبيعية، لو لم تهدر في الفساد وسوء الادارة، لكانت حققت الرفاه والتقدم لا فقط للشعب، بل وكذلك لكل المنطقة .
ما لم تدركه الانظمة العربية، عامة، الى حد الان، وربما حتى في السنوات القادمة، وذلك لمحدودية ذكائها وقصر نظرها وشغفها المرضي بالسلطة والتسلط،انها اصبحت عاجزة عن ادارة اجهزة الدولة، وان الشعوب، رغم التعتيم الاعلامي ومحاصرة البدائل وخنق المبادرات وسيطرة الجهل التي تسببت فيه السياسات التعليمية الفاشلة، اصبحت مقتنعة انها تمتلك مصيرها بيدها، وان جدار الخوف السميك الذي شيدته هذه الانظمة على مر العقود قد اتسع شرخه منذ سنة 2011، لذلك أفتكت الشوارع بإرادتها،هذا الفضاء العام المحجوز لعقود من الزمن لدى الديكتاتوريات، التي راهنت على ان تبقي شعوبها خلف أبواب مغلقة، إلى الأبد.
الربط بين الاقتصادي والسياسي في السودان والجزائر:
ما يعكس الوعي المتزايد لدى الجماهير في المنطقة، وما يستحق دراسة متأنية حقا،هو هذا الربط بين الاقتصادي والسياسي، بالأحرى بين عقم الوضع السياسي والازمة الاقتصادية والاجتماعية وعلاقتهما الوطيدةبكل الامراض التي تنخر المجتمع، اذ توصل المتظاهرون، بعد اختبار قوتهم في الساحات العامة وصلابة تحركاتهم وتضامنهم وتناغم شعاراتهم ،الى نتيجةتتجاوز مطلب سياسي أو اقتصادي محدد:استهداف، رأس الحربة، الأنظمة، بمختلف أجهزتها وشخوصها، إذ إنها هي المتسببة في كل الأزمات، وتبدد خيارات البلاد ، لذلك انطلقت الاحتجاجات في 22 فيفري2019 في الجزائر على خلفية رفض ولاية خامسة لعبدالعزيز بوتفليقة للتجذر مع انتشار المظاهرات المليونية في عديد المحافظات، ولتطالب برحيل كل أجهزة النظام (يتنحاو-قاع)، المسؤولة لا فقط عن تأبيد الأزمة السياسية، بل عن انتشار كل مظاهر الفساد والمحسوبية والتخلف والبطالة رغم مردود الريع الضخم،
مقابل ذلك، انطلقت المظاهرات منذ 22 ديسمبر الماضي في السودان من مطالب اجتماعية ، منددة بغلاء المواد الاساسية مثل الخبز والدقيق ،نتيجة لاستيراد المواد الغذائية والقمح، في بلد يمتلك اكثر الاراضي خصوبة واكبر احتياطي مياه في المنطقة، مع امطار موسمية وتنوع مناخي ملائم لإنتاج فلاحي، قادر على تحقيق الاكتفاء الذاتي لكل المنطقة العربية، لتنتهي بالمطالبة بإسقاط النظام، وحتى مناورة العسكر الاخيرة بإيقاف عمر البشير والوعد بانتخابات في السنتين القادمتين ، فإنها لم تنطل وتحدى المتظاهرون حظر التجول ، شعارهم: «الشارع بس»، ومخاطبين وجوه العسكر الجدد، بعد سقوط البشير، «لم تسقط بعدُ» و«سقطت تاني... وتسقط ثالث» في اشارة الى محاولة النظام تغيير جلده...
في الحقيقة، وعكس ما يعتقد البعض، فان الثورات لا تأتي فجاءة ولا تباغت الا المغفلين الماسكين بالسلطة والمنقطعين عن اي علاقة بشعوبهم وهمومها ،تماما كما تباغت بعض النخب التي عادة ما يفاجئها ما يزخر به الشعب من طاقات صمود هائلة ومخزون شجاعة فائقة وعمق سياسي يفوق تقديرها،فالشعوب تعطي بعض الاشارات الغاضبة وتقدم بعض الضحايا، اولئك الذين لهم شجاعة المبادرة ، أولئك الذين يكشفون الطريق ويعبدونه بتقديم انفسهم قربانا من اجل الحرية،
انها اذن موجة ثانية من الثورات العربية واصرار لدى شعوب المنطقة على أنه، مهما تكن السيناريوات المحتملة ، فإنها لن تكون أسوأ من استقرار مزيف، يخفي ازمات عميقة، راكمتها سنوات من الديكتاتورية والفساد، استنزفت طاقات هائلة، وهي كذلك درس لمن يريد ان يعتبر، ان شعوب المنطقة تتوق، مثل غيرها من الشعوب، الى الحرية والعدالة، وان حكام المنطقة المحنطين، وان طال حكمهم، ليسوا قدرا محتوما.
يبقى سؤال محوري، وهو هل ان الثورتين ستستفيدان من تجارب الثورات العربية وتتجنبان اخطائها الكارثية ؟ ذلك في اعتقادي مرتبط بنجاح القيادة الانتقالية وقدرتها على الاستفادة من اللحظة التاريخية الفارقة، الان.
حتى دول الخليج ليست في مأمن من الثورات العربية:
في دراسة قامت بها مجلة «الايكونوميست» البريطانية، يتضح ان دول مجلس التعاون الخليجي تعرف مخاضا جديدا، قد ينبئ في المستقبل القريب بتغييرات مهمة، فهذه الدول تعرف أعلى نسبة نمو سكان في العالم ويمثل الشباب الأقل من 25 سنة الأغلبية فيها ، ويعتبر من التحديات المهمة تشغيل هذا الشباب الذي يطمح الى حياة أفضل في واقع صعوبات اقتصادية واجتماعية تعرفها هذه البلدان أمام تراجع سعر الريع النفطي مقارنة بالسنوات الماضية وسوء الحوكمة واستنزاف مقدراتها عبر تكديس الأسلحة والحروب الوهمية والحقيقية.
وربما التحدي الأهم هو ان المجتمعات ، وحتى الحكومات في هذه المنطقة، تعيش أوضاعا غير مريحة، ممزقة بين الحياة التقليدية، أين الدين بمفهومه الصارم والعائلة ببعدها التقليدي هما من أهم محاور الحياة العامة وبين اختراق سريع لثقافة جديدة، عصرية، بدأت تتمرد عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام، ابرز أسلحة بداية الثورات العربية.
الجيش والتاريخ:
في الاخير هناك طرف اخر في ثورتي السودان والجزائر، عليه ان يحدد موقفه في هذه الفترة الحرجة: الجيش، فهل سينحاز الى المسار الحتمي للتاريخ ويعي ان توق المواطنين، ومنهم الشباب خاصة، في العيش في بلد يحكمه نظام سياسي يعكس ارادته ويخضع للمساءلة ويؤمن بحقوق المواطنين في الحرية والعدالة، هي قناعة لارجعة فيها في هذا العصر، ويترك للمدنيين تدبير انتقال السلطة، أم انه سيعيد تجارب انظمة فاشلة،وفي هذه الحالة يكون مصيره، طال الزمن أم قصر، مثل عمر البشير، الذي انقلب، بمساعدة الاخوان المسلمين، على حكم ديمقراطي ،لينتهي به الامر، وهو في اخر مراحل حياته، ملاحقا قضائيا داخليا وخارجيا.