أم انه يجب على الدول أن تلعب دورا أكثر نشاطا وتدخلا ؟ هل يمكن الحديث عن دور جديد للدولة في الاقتصاد بعد سنوات من الاقصاء في ظل هيمنة الفكر والسياسات الاقتصادية النيوليبرالية ؟
هذه الأسئلة وغيرها يطرحها العديد من المفكرين والاقتصاديين في النقاش العام على المستوى العالمي.
وهذه الأسئلة تهيئ لعودة الدولة في المجال الاقتصادي والاجتماعي كما تشير لذلك عديد الاختيارات والتوجهات الكبرى للسياسات الاقتصادية في عديد البلدان المتقدمة .
هذا الاهتمام الجديد لدور الدولة جاء ليغلق فترة تاريخية طويلة اعتبر فيها المفكرون والاقتصاديون أن دور الدولة انقضى وانتهى لصالح السوق . إلا أن انتكاس السوق والأزمات الاقتصادية المتتالية جاءت لتفتح مرحلة تاريخية جديدة تعيد للدولة شيئا من بريقها وإشعاعها الذي تلاشى مع انتصار النيوليبرالية في العالم منذ عقود خلت .
ولعل الخوف من المستقبل والجزع والقلق أمام التحولات الكبرى التي يشهدها العالم كانت وراء بروز هذه الحاجة الجديدة للدولة . وتتجسد هذه الحاجة والبحث الجديد عن دور مهم للدولة في عديد المجالات . ففي المجال الصناعي نشاهد اليوم محاولات هامة في عديد الدول المتقدمة لإعادة إنتاج الدول ودعمها للسياسات الصناعية بعد أن وقع تهميشها لعقود طويلة . أما في الميدان التجاري فقد قامت العديد من الدول بالعودة إلى السياسات الحمائية بعد سنوات وعقود من السياسات التحررية وفتح الحدود أمام التجارة الحرة . وقد لعبت هذه السياسات الحمائية الجديدة كالتي تتبعها الإدارة الأمريكية دورا في تهميش المفاوضات التجارية المتعددة الأطراف وفي تراجع دور منظمة التجارة الدولية والتي ساهمت منذ نشأتها في دعم وتطوير السياسات التحررية التجارية .
ولم تقتصر الدعوة إلى عودة الدولة على السياسات الصناعية والتجارية بل نشهدها كذلك في المجال الاجتماعي حيث بدأنا نشهد عودة لتدخل الدولة من اجل وضع حد للتهميش وتزايد الفقر وتنامي عدم المساواة والتفاوت الاجتماعي .
وتفتح هذه النقاشات والسياسات الجديدة فترة جديدة في العلاقة بين الدول والمجتمعات والاقتصاديات المعاصرة . وقد بدأت هذه العلاقات العضوية قبيل الحرب العالمية الثانية لتتدعم بعدها مع ظهور دولة الرفاه أو Etat providence في اغلب البلدان الرأسمالية المتقدمة والتي ستلعب دورا مركزيا في تحديث هذه المجتمعات وتطويرها . وبالرغم من الاختلافات الكبيرة بين الدول فان تجربة دولة الرفاه الشائعة في تلك الفترة كانت ترتكز على أربعة مبادئ أساسية:
المبدأ الأول يهم اضطلاع الدولة بالمسائل الإستراتيجية والمستقبلية للتطور الاقتصادي في المجتمعات الرأسمالية من خلال مؤسسات التخطيط . ولئن كان التخطيط كليا في البلدان الاشتراكية يشمل كل مجالات الاقتصاد ولا يترك أي مجال لتدخل السوق في الاتحاد السوفياتي وفي البلدان الاشتراكية في تلك الفترة فلقد لعب كذلك دورا هاما في البلدان الرأسمالية من خلال تحديد التوجهات الكبرى والاختيارات الإستراتيجية للمستقبل .
أما الركيزة الثانية لدولة الرفاه فتخص مساهمة الدولة في نجاح النظام الاقتصادي الفوردي «fordisme» والذي ساد في المجتمعات الرأسمالية اثر نهاية الحرب العالمية الثانية والذي ربط التطور الكبير في الإنتاجية بنمو الاستهلاك وكان وراء ظهور مجتمعات الاستهلاك الجماهيري (consommation de masse) . وهكذا كان نمو الإنتاجية وراء زيادة هامة في الأجور والتي ساهمت في تطور الأسواق الداخلية لتجعل منها قاطرة مجتمعات الوفرة (société d’abondance)
أما السمة الثالثة لدولة الرفاه فتخص التدخل المباشر للدولة في الديناميكية الاقتصادية من خلال الاستثمار العمومي المباشر والمؤسسات والشركات العمومية والتي لعبت دورا مركزيا في النمو العام الذي عرفته المجتمعات الرأسمالية في هذه الحقبة الذهبية والتي امتدت إلى بداية سبعينات القرن الماضي .
أما الركيزة الرابعة لدولة الرفاه فتخص الجانب الاجتماعي والسياسات النشيطة المتبعة من اجل تحسين التوزيع الأساسي للثروة وإعطائه أكثر عدالة ومساواة . وقد طورت دولة الرفاه عديد الآليات من اجل دعم الجانب الاجتماعي والعدالة الاجتماعية والتآزر بين الأجيال ومن ضمنها سياسات إعادة التوزيع والصناديق الاجتماعية .
بجوانبها المختلفة لعبت دولة الرفاه دورا أساسيا ومركزيا في النمو الكبير الذي عرفته المجتمعات الرأسمالية والاقتصاد العالمي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية . والى اليوم لم يعرف الاقتصاد العالمي فترة نمو أطول واهم من هذه المرحلة مما جعل العديد يعتبرها فترة نمو ذهبية . إلا أن نجاحات دولة الرفاه لم تقتصر على الجانب الاقتصادي بل شملت كذلك الجوانب الاجتماعية من خلال بروز مجتمعات الوفرة والحرية في اغلب المجتمعات الرأسمالية .
إلا أن هذه الرحلة وهذا الدور الاستراتيجي للدولة من خلال دولة الرفاه لن يدوم طويلا إذ ستشهد المجتمعات الرأسمالية أزمة اقتصادية خانقة منذ بداية سبعينات القرن الماضي مع تراجع النمو وظهور التضخم . وستكون هذه الأزمة وراء ظهور الثورة المضادة النيوليبرالية مع انتصار مارغريت تاتشر في بريطانيا العظمى ورونالد ريغان في الولايات المتحدة الأمريكية وستقود الثورة النيوليبرالية حملة نقدية شديدة على الدولة لتجعل منها مكمن الداء في أسباب الأزمات الاقتصادية للنظام الرأسمالي . وستفتح هذه الانتقادات فترة جديدة من السياسات الاقتصادية والاختيارات التي ستجعل من السوق الأداة الرئيسية في تنظيم الاقتصاد وفي الديناميكية الاقتصادية .
إلا أن هذه الثورة النيوليبرالية ستشهد بداية تراجعها في منتصف التسعينات مع تواتر الأزمات الاقتصادية في البلدان المتقدمة . وستفتح هذه الأزمات مرحلة جديدة في تاريخ الأنظمة الرأسمالية مع عودة الدولة لإصلاح عيوب السوق وعدم قدرته على حسن إدارة الأنظمة الرأسمالية . وستعرف هذه الفترة ظهور نظرية اقتصاد السوق الاجتماعي التي ستعطي دورا جديدا للدولة على تعديل النظام الرأسمالي وضمان حسن سيره .
إلا أن هذه المراجعات وهذه العودة التدريجية للدولة لم تكن كافية لإخراج النظام الاقتصادي العالمي والبلدان الرأسمالية من التقلبات الاقتصادية والاجتماعية.
فسنعرف تزايد الأزمات الاقتصادية التي ستعرف ذروتها في الأزمة العالمية لسنوات 2008 و2009 والتي وضعت الاقتصاد العالمي على حافة الانهيار . وستكون هذه الأزمة وراء عودة الدولة في المجال الاقتصادي من اجل إنقاذ الاقتصاد العالمي من السقوط والخروج من الانكماش الكبير الذي عرفه الاقتصاد العالمي .
وفي نفس الوقت بدأنا نشهد تنامي التفاوت الاجتماعي وعدم المساواة في اغلب البلدان .وقد أشارت اغلب الدراسات والتحاليل الاقتصادية إلى أن تراجع الدولة وسياساتها التعديلية في مجال توزيع الثروات كان وراء نمو الفوارق الاجتماعية في اغلب البلدان والتي أصبحت تهدد الاستقرار السياسي والاجتماعي .
لقد كانت هذه الأزمات الاقتصادية والهزات والانتفاضات الاجتماعية وراء البحث عن أشكال جديدة لتدخل الدولة ولئن كانت العودة إلى دولة الرفاه بعيدة المنال فقد فتحت هذه الأزمات مجالات البحث عن أفكار جديدة وتصورات جديدة لدور الدولة في مجتمعاتنا المعاصرة .ومن جملة هذه الأفكار يمكن الإشارة إلى فكرة الدولة المحرّرة التي اقترحتها مجموعة من الخبراء والمفكرين في كتاب صدر منذ أيام تحت عنوان «Manifeste pour le progrès social» أو « مانيفستو من اجل التقدم الاجتماعي « عن دار النشر الباريسية la decouverte» ويطرح هذا المشروع تصورا جديدا للدولة اقل مركزية وأكثر قربا وانفتاحا على المواطنين .وحددت هذه القراءات دورا جديدا للدولة يركز على جانبين مهمين . يهم الجانب الأول المستوى الجماعي والذي يسعى لإعادة بناء وابتكار سياسات عامة تهدف إلى تمتين النسيج الاجتماعي من خلال سياسات جريئة وشجاعة في أهم الميادين الاجتماعية كالتعليم والصحة . أما الجانب الثاني لتدخل وسياسات الدولة المحررة فيهم الجانب الفردي من خلال وضع السياسات والمؤسسات القادرة على دعم دور الفرد وتشجيعه على إنجاح مشاريعه الفردية لتحسين أوضاعه وإعطائه الإمكانيات لتطويرها نحو الأفضل .
يمر العالم اليوم بالكثير من التحولات والتغييرات في مستويات مختلفة منها الاقتصادي والتكنولوجي والسياسي والاجتماعي . وقد خلقت هذه الاوضاع حالة من الانزعاج والخوف من المستقبل ولدت إحساسا بضرورة العودة للدولة القادرة على وضع السياسات التي تعيد الاطمئنان والثقة . وقد ولدت هذه الحاجة للدولة عديد التحاليل والقراءات من اجل استنباط دور جديد للدولة من خلال محتويات جديدة للسياسات العمومية وتدخلها في السياسات الاقتصادية .